الأسبوع العظيم - نهاية مسيرة
تنتهي مسيرة الصوم الأربعيني بالاستعداد لعيش أيام الأسبوع العظيم المقدس، ذكرى آلام المسيح وموته وقيامته. فالكنيسة، بوساطة الطقوس والنصوص التي نظمتها طوال قرون، تُشرك كل واحد منّا، نحن المؤمنين، وبطريقة شخصية جداً، بمراحل هذا الأسبوع الذي يبدأ في "سبت لعازر" وينتهي بـ "القيامة المجيدة".
فذكرى قيامة لعازر مزدوجة المعنى. إنّها أولاً مقدمة ومدخل إلى ظلمة الصلب، وثانياً انتصار المسيح على الجحيم الذي هو الموت والليل المحتم. فهذا السبت يُعلن نور السبت العظيم المقدّس وفرحه وهو السبت التالي لسبت لعازر، ومنه ستنبع الحياة.
يمثّل لعازر كل واحد منّا. إنّه البشرية بأسرها. وبيت عنيا هي الكون، موطن كل انسان خُلِِقَ ودُعيَ ليكون صديقاً ليسوع مثل لعازر؛ هذه الصداقة القائمة على معرفة الله والاتحاد به. لعازر الصديق الذي تقتله وتفنيه سلطة الموت، يبكيه يسوع عند قبره. هكذا يُخبرنا الانجيلي يوحنا "لما وصلَ إلى قبر صديقه بكى" (11/35)، لماذا بكى المسيح وما هو المعنى الحقيقي لدموعه؟ إنّها تشير إلى طبيعته الإنسانية. ومع أنّه يعرف بطبيعته الإلهية أنّه سيعيد لعازر إلى الحياة، بكى. لقد بكى الإله- الإنسان عندما رأى انتصار الموت وتحديه لله وقضاءه على الخليقة التي صنعتها يداه. فعند قبر لعازر، يواجه الله الموت، يواجه عدوه الذي انتزع منه الخليقة. ولأنّه يحب لعازر، أصبحت محبته الّتي أبكته عند القبر قدرة على احياءه. إنها المحبة التي تفتدي وتعمل لتخلق الإنسان ثانيةً وتعيده إلى حالته الأولى قبل السقوط.
سبت لعازرهو مقدمة لأحد الشعانين، يوم دخول الرب الاحتفالي إلى اورشليم المقدسة. فقد استقبلته الجموع بسعف النخيل وأغصان الزيتون والهتاف. بهذا الدخول تنتهي النبوءات وينتهي الانتظار. فملكوت الله قد بدأ "هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش".
حين نحيي ذكرى ذلك الحدث، نتمثّل بمعاصريّ يسوع ونحيّي الملك المتواضع بسعف النخل والهتاف: هوشعنا. فنجدد ولاءنا لملكنا ونعترف بأن ملكوته هو غاية حياتنا، وأن لا شيء فيها يخرج عن سلطته وعمله الفدائي الذي سيقوده إلى القبر عبر الجلجلة والصليب.
فالمسيح لن يدخل اورشليم ثانية. وما يريده منّا هو الوفاء بالعهد الذي نجدده كل سنة باحتفالنا بأحد الشعانين.
كان اليهود يحتفلون سنوياً بعيد الفصح الذي يعني العبور أو الإنتقال. إنّه تذكير بتاريخهم كله عندما انتقلوا من العبودية إلى الحرية، من المنفى إلى أرض الميعاد. إنّه تذكير بخلاصهم. أما المسيح فهو اتمام الفصح، إنّه الإنتقال من الموت إلى الحياة، من العالم القديم إلى العالم الجديد المُتحرر من عبودية الخطيئة والموت. ونحن مدعوون للانتقال إلى هذا العالم بخلع آدم القديم عن أنفسنا وارتداء المسيح.
الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع المقدس تحضّرنا لفهم أوسع لمعنى الفصح، معنى خروج المسيح إلى أبيه واكتمال تاريخ الخلاص في شخصه بطاعته وآلامه وتضحيته بنفسه. إنّها تحثنا على الاستعداد والتوبة، (مثل العذارى، المرأة التي سكبت طيباً ثميناً على يسوع) فالآخرة والدينونة قريبتان "كونوا اذن أنتم أيضاً، مستعدين، لأن ابن البشر يأتي في ساعة لا تظنونها" (متى 24/44).
يتميز الخميس العظيم بحدثين: العشاء الأخير مع التلاميذ، وخيانة يهوذا. هذان الحدثان وجهان مختلفان للمحبة. فالعشاء الأخير هو كشف لمحبة الله التي افتدت الانسان لتحقق له الخلاص. فيه يقدّم المسيح نفسه غذاءً حقيقياً "خذوا فكلوا... ". وبهذا يعيد خلق الجنة ويعيد الانسان إلى حالة ما قبل السقوط. أما خيانة يهوذا، فهي محبة مشوهة؛ محبة الخطيئة والموت. فحب يهوذا للمال يرمز إلى كل حب فاسد ومنحرف يقود إلى خيانة الله ونهايته الموت. يهوذا يغادر النور في الليل "وكان ليلاً" (يو 13/30).
وفي الخميس العظيم أيضاً، غسل المسيح أرجل تلاميذه ليشير إلى أمرين: أولاً أنه يجب علينا أن ندعه يطهرنا من خطايانا. وثانياً أن المحبة والتواضع هما أساس الحياة في الكنيسة وعليهما أن تكونا أساساً لكل علاقاتنا.
ومن الخميس العظيم، ننتقل إلى ظلمة الجمعة العظيمة، يوم آلام المسيح وموته ودفنه. قديماً، كانت الكنيسة تسمي هذا اليوم: "فصح الصليب". أي عبور الصليب. فمنه نصل إلى بهجة يوم القيامة عبر هدوء سبت النور. لقد اختار المسيح أن يموت لأجلنا ولأجل خلاصنا، فاتخذ طبيعتنا الحقيرة الخاطئة ليعيد لنا بموته بهاءها الأول. إنّه يموت بدلاً عنّا، حبّاً بنا. قبِلَ العقوبة الخاصة بطبيعتنا ليكشف لنا عن عظمة شفقته وحبه. وبقبوله الموت طوعاً غيّر طبيعة الموت. فلم يعد الموت عقوبة بل فعل محبة وغفران. بموت المسيح انتهى زمن العزلة وفقدان الاتحاد مع الله. لم تتمكن الخطيئة أن تظهر تفوقها وتقضي على الخير، فالمسيح كان المنتصر والغالب طيلة آلامه، وظهر مجده جلياً في كل خطوة من خطواته نحو الصليب. وقد لاحظ هذا الأمر أشخاص كثيرون: امرأة بيلاطس، قائد المئة، لصّ اليمين ... فلا مفر من الاعتراف: "بالحقيقة كان هذا الرجل ابن الله".
إنّ موت المسيح فعل محبة وطاعة تامة لإرادة أبيه. وهي أساس انتصاره. فالآب يريد ذلك الموت والابن يقبله طوعاً وبملء ارادته. يقول عن حياته: "لم ينتزعها أحد مني، إنما أنا أبذلها باختياري" (يو10/18). لقد أراد الآب أن لا يكون الموت فعلاً من أفعال قدرته؛ أراد أن يُغلَبَ الموت ويُباد من الداخل. لهذا أسلم ابنه (الانسان-الإله) كي يكون الخلاص خلاصاً فعلياً على يد الانسان وفي شخص الانسان: "لأنه بما أنّ الموت كان بإنسان، فبإنسان أيضاً قيامة الأموات" (1 كور15/21). ومن هنا كانت ضرورة التجسد الإلهي وضرورة هذه الميتة الإلهية.
السبت العظيم المقدس، هو اليوم الذي يصل ذكرى الصلب بيوم القيامة، فيحوّل يوم الحزن إلى يوم فرح، ففيه ينبت الانتصار من قلب الهزيمة. المسيح "سحق الموت بموته" أي قَبِلَ القيامة. يوم سبت النور هو يوم الانجاز التام. إنّه اليوم السابع "إنّ الله قد بارك اليوم السابع"، يوم الراحة الذي فيه استراح ابن الله من كل أعماله. فهو يُنهي ويُتم حكاية الخلاص، ويكون الفصل الأخير فيها الانتصار على الموت. لقد أعلن سبت النور بشرى القيامة بصوت خافت. فمع نهاية هذا النهار وبزوغ فجر يوم الأحد، ستعلن الكنيسة بأعلى صوتها: إنّ يسوع المسيح قد قام من بين الأموات، وبقيامته يكتمل فرحنا الفصحي.
http://www.talimmasihi.com/ahadis_other_010.htm