صوم الميلاد
الأب متى المسكين
الصوم في الكنيسة الأرثوذكسية محور كل عبادة فردية أو جماعية، أما بالنسبة للفرد فالآباء قالوا: ”إذا أردت أن تنجح في أية فضيلة روحانية فابدأ جهادك بالصوم“؛ لأن الصوم هو أول وأقوى عمل لتحويل الطاقة الجسدية إلى طاقة روحانية، لذلك أصبح الوسيلة الفعَّالة والناجعة لتزكية كل سيرة روحانية. فبقدر ما يعتاد الإنسان الصوم،
بقدر ما تستقر نفسه في علاقتها مع الله وتنكشف أمامه أسرار الحياة.
ولكن يوجد فرق كبير بين صوم نمارسه مؤقَّتاً من أجل ظروف خاصة نجتازها، وبين صوم نمارسه بدون أسباب، حبًّا في الصوم ذاته كوسيلة لسمو الروح وتقرُّبها من الله. فممارسة الصوم لأسباب خاصة لها نتائج طيبة، ولكن لا ترفع درجة الروح إلى مستوى ثابت في علاقتها مع الله، أما الصوم حبّاً في الله فإنه يصير كجناحين يرفعان النفس لتُحلِّق دائماً في جو الله.
أما الصوم بالنسبة للكنيسة كجماعة فهو محاولة ناجحة لجعل الصوم بدون أسباب شخصية، فالكنيسة تحدِّد أصواماً عامة لمناسبات عامة يصوم فيها كل الشعب تحت نظام موحَّد، حيث يحس كل إنسان أنه يقدِّم صومه مع صوم الجماعة ليحتفظ بكيانه متحداً معها كثمن، أو بالحري كعربون لعضويته في الكنيسة الحيَّة العاملة والمنتصرة بآن واحد. أي أن الصوم الجماعي يـوحِّد الأفراد كجسم واحد ويقرِّبهم إلى الله كعروس مزيَّنة لعريسها.
فإذا كان الصوم الفردي الذي يكون بدون أسباب شخصية يستطيع أن يرفع مستوى النفس ويُقرِّبها من الله لتستقر في سلامها وفرحها معه، فالصوم الجماعي الذي تحدِّده الكنيسة لكل الشعب يستطيع أن يرفع الكنيسة كلها إلى مستوى روحي عالٍ ويُقرِّبها من الله ويُدخلها في سلام دائم معه، هذا إذا أقبل الشعب كله على الصوم بهذه النيَّة وبدون تململ.
والكنيسة في تحديدها لمواسم الصوم ومدَّته اعتمدت على أمرين أساسيين:
الأول: المناسبة التي أوحت إليها الصوم في حد ذاتها،
الثاني: حاجة الكنيسة دائماً وباستمرار إلى الصوم في حد ذاته.
وهذان الأمران هما في حقيقتهما دافعان عظيمان ومهمان جدّاً للصوم يحويان جوهر العبادة كله.
أما المناسبة التي أوحت بالصوم للكنيسة، فهي دائماً نابعة من سر الخلاص الذي أكمله لنا المسيح، وهي إما ميلاده أو موته أو قيامته، أو حلول الروح القدس وبدء كرازة الرسل باسمه في العالم كله، أو تقييم الدور الذي أكملته العذراء القديسة مريم في قبولها سر الخلاص الإلهي الذي كان مخفياً فيها والشهادة له حتى يوم الخمسين إلى أن حلَّ الروح القدس واضطلع هو بالشهادة من بعدها إلى نهاية الزمن.
والعلاقة التي تربط كلاًّ من هذه المناسبات بالصوم وتحتِّمه، هي علاقة روحية سرية غاية في الأهمية، إذ يستحيل أن ندخل مثلاً في سر الميلاد الذي هو استعلان الله في الجسد الإنساني، إذا لم نسمُ بأفكارنا وحواسنا الجسدية إلى مستوى إلهي. وقد قلنا سابقاً إن الصوم هو الوسيلة العُظمى لتحويل الطاقة الجسدية فكرياً وعاطفياً إلى طاقة روحانية. إذن، فلا مناص من الصوم إن كنا نريد أن نستعلن روحياً سر الخلاص القائم والمُعلَن في تجسُّد ابن الله أي في ميلاد المسيح.
فالكنيسة حددت صوم الميلاد لتهيِّئ لكل فرد المستوى الروحي الذي يستطيع من خلاله قبول سر الخلاص القائم والمُعلَنْ في التجسُّد الإلهي، أي في ميلاد المسيح، لأنه يستحيل على الإنسان الطبيعي المنغمس في الأكل والشرب والملاهي أن يقبل هذا السر الفائق للطبيعة وغير المعقول حتى لدى الحكماء جدًّا. لذلك إذا لم يرتفع الإنسان إلى ما فوق الطبيعة بكل كيانه الجسدي والنفسي (بالصوم) حتى يتهيَّأ العقل للتفكير، مجرد التفكير في إمكانية التجسُّد وضرورته، فلن يستطيع أن يدرك هذا السر: «ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكَم فيه روحياً. وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من أحد» (1كو 2: 15،14).
فإذا استطاعت الكنيسة أن ترتفع إلى هذا المستوى الروحي كجسد متجلِّي بالصوم ومتطهِّر، فإنها تواجه الميلاد كعيد حقيقي فيصير لها فرحاً وبهجة، لأنها لا تكون في مواجهة السر الإلهي وحسب بل تدخل فيه كجسد بلغ إلى مستوى سر التجسُّد، أو بحسب التعبير اللاهوتي: ”تصير الكنيسة جسداً سريّاً“، أي يحل فيها المسيح تماماً كما حلَّ في الجسد الذي أخذه من العذراء! الكنيسة هنا لا تُعيِّد للميلاد الزمني كحادثة تاريخية فحسب، بل تعيِّد للميلاد الحادث في صميمها، تُعيِّد للحلول الإلهي الذي يتجسَّدها!
وهنا كل فرد في الكنيسة يحس بإحساس الكنيسة وينغمر في لُجَّة عطاياها، إن هو انتفع بالصوم لنفسه. إذن، فالصوم يمهِّد الفرد لقبول ما للكنيسة، والكنيسة بصوم كل أفرادها تأخذ ما يمكن أن تعطيه لكل فرد. الصوم هنا سر توحيد، وسر الأخذ والعطاء يوحِّد الإمكانيات الفردية لحساب الكنيسة، ويفرِّق العطايا الممنوحة للكنيسة لحساب الأفراد.
الكنيسة غنية، تفيض دائماً بعطاياها بكل سخاء، في كل وقت، بسبب استحقاقها المستمر. والكنيسة مستحقة لكافة عطايا المسيح بسبب كونها مختارة وجديرة بالاختيار معاً، فالمسيح اختار الكنيسة من وسط العالم وفداها بدمه ليُعلن فيها غِنَى لطفه وعمق محبته وصدق مواعيده وأسراره. والكنيسة بدورها أبرزت للعالم بواسطة قديسيها وأتقيائها شهوداً أثبتوا جدارة الكنيسة باختيار المسيح لها، بسيرتهم وحياتهم ونسكهم وصومهم ومحبتهم التي فاقت حدود الموت! وحتى الآن وإلى الأبد لا تزال الكنيسة تأخذ من غِنَى لطف المسيح وعمق محبته وأسراره، وكذلك من ميراث قديسيها ومجدهم المذخر في كنْـزِها بآن واحد وتفرق على أولادها.
فإذا فحصنا ما يجري كل يوم في جرن المعمودية وتأملنا كيف تهب الكنيسة من كنـز حياتها سر الحياة الجديدة بالمسيح، أي سر الميلاد لكل من يريد أن يعتمد، نجد أنها في نفس الوقت تحتِّم على الكاهن المعمِّد والابن الجديد المعمَّد أن يصوما معاً قبل إجراء سر العماد حتى يتم سر الميلاد الجديد! الصوم هنا شرط أساسي للكنيسة والفرد: الكنيسة يمثلها الكاهن والشماس، والفرد الجديد إما يصوم بنفسه أو إن كان طفلاً يصوم أبواه وإشبينه، وذلك لبلوغ مستوى السر في فاعليته وعطائه وأخذه. الصوم هنا ملازم لسر الخلاص بصورة حتمية لأنه لا يعلنه فحسب كرؤيا فكرية بل هو محسوب مدخلاً أساسياً إليه: «المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روح» (يو 3: 6). هنا يلزم لمن يريد أن يُولَد روحياً أن يرتفع على سلم الصوم ليهيِّئ الإرادة للانتقال من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح.
ما يتم للفرد في جرن المعمودية داخل الكنيسة هو صياغة عملية مبنية أساساً على ما تمَّ وما يتم للكنيسة باستمرار حينما تصوم لميلاد المسيح وتعيِّد له. فالكنيسة باعتبارها جسد المسيح السرِّي وُلدت بميلاد المسيح، وهي لا تزال قائمة حيَّة تشهد لهذا الميلاد وتمارسه بسلطان حينما تعمِّد أولاد الجسد فتحوِّلهم إلى أولاد الروح.
والكنيسة حينما تصوم للميلاد كل سنة فهي تشهد لحياة المسيح التي فيها، وفي نفس الوقت تجدِّد قوة لتعطي من هذه الحياة لكل مَنْ يريد أن يعتمد ليأخذ ميلاداً جديداً من ميلادها، من حياتها، من المسيح المولود فيها