البشارة
بالخلاص
الخلاص غاية البشارة بالتجسّد الإلهي. ثمرة البشارة عرّفها كاتب رسالة اليوم أن المقدِّس (المسيح) والمقدَّسين (المؤمنين) كلهم من واحد أي الآب وهذا يؤسس الأُخوّة القائمة بيننا وبين المخلّص. وتظهر أُخوّتنا للسيد بأننا نُسبّحه في الكنيسة وبإعلان يسوع (في الرسالة): “ها أنذا والأولاد الذين أَعطانيهم الله” (اولاد الله او أبناؤه).
لنا عُنصر اشتراك أساسيّ مع المسيح أننا معه حاملون اللحم والدم اللذين اشترك هو فيهما بالتجسد من مريم لكي يُبطل بموته الشيطان أي فاعلية الشيطان ويُحررنا من العبودية التي كنا خاضعين لها مخافةً من الموت.
نرتكب الخطيئة خوفًا من الموت إذ نعتقد أن الخطيئة تُحيينا، تُنعشنا. ولكن ما إن أَحسسنا أننا نموت بها، تُعطينا العدم لأنها عدم إذ ليس فيها قوّة الحياة.
بعد هذا يقول الكاتب ان الله اتّخذ نسل إبراهيم. “فمن ثم كان ينبغي أن يكون شبيهًا بإخـوتـه فـي كل شيء”. وأهم شبه له بنا أنه مات إذ الموت أهم شيء في حياتنا وهو أفصح تعبير عن حب يسوع لنا. وأفصح تعبير كان لكاتب الرسالة عن موت المسيح انه سمّاه “رئيس كهنة” وهو الوحيد الذي صار لله أبيه قربانًا بالموت. وهو قرَّب باختياره هذا القربان “حتّى يُكفّر خطايا الشعب”.
ثم يوضح أن الرب يسوع تألم مجرَّبًا، والتجربة كانت قاسية في الضرب والهزء وإكليل الشوك وتسميره على الخشبة وطعنه بالحربة. ولكونه ذاق التجربة صار “قادرًا على أن يُغيث المصابين بالتجارب” أي نحن المؤمنين به.
الطـريـق ابتـدأ بالبـشارة، ومنذ أخذ هو يبشـّر صـار اليهـود أعـداء له وأرادوا إسكاته وقمعه، ولكنه تكلـّل هـو بانتصاره على المـوت. فإذا ما أَقمنـا ذكـرى البشـارة اليـوم، لـنـبـقَ عـالميـن أننـا نتهيـأ لنُتـابع كل طريقه حتى آخرها على هذه الأرض في الصليب والقيـامـة. ولنـذُق سَيـرنا معـه لأنـه هـو الطريق وليس غيره من طريق.
اليوم يوم فرح لأنه يكشف لنا قرب الله من الإنسان ليس فقط كما كان يقول في الأنبياء ولكن في كونه نزل ونصب خيمته في حيّنا وعايشنا في كل أطوار حياتنا، وآخر تعبير عن معايشته أنه مات معنا، وصار موتُنا مجالسة له، وازداد بموتنا قربُنا اليه بعد أن كان الموت “أُجرة للخطيئة” ولعنة.
هذا كله تطلّع فصحي. والفصح وحده هو التطلّع وتقبّلنا قوّة الله. فبعد أن كنّا مفصولين عنه، يُخبرنا أن قبول مريم للتجسّد جعلنا أبناء الله بعد أن كنّا أبناء الغضب.
ولكون عيد البشارة يقع دائمًا في الصيام، صرنا نفهم أن التقشف والنُسك والتوبة صارت كلها لازمة لنا لنفهم أُخوّة السيد لنا وقيادته لنا الى الخلاص بالصليب والقيامة.
ونحن لا نعبُر عيد البشارة إلا لننعطف على الأسبوع العظيم ونفرح فيه ونتهيأ به الى نصر المسيح في الفصح.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان).
الرسالة: عبرانيين 2: 11-18
يا إخوة، إن المقدِّس والمقدَّسين كلّهم من واحد. فلهذا السبب لا يستحيي أَن يدعوَهم إخوةً قائلا: سأُخبر باسمك إخوتي وأُسَبّحك في الكنيسة، وأيضًا سأكون متوكلا عليه، وأيضًا ها أَنذا والأولاد الذين أَعطانيهم الله، إذن إذ قد اشترك الأولاد الأولاد في اللحم والدم اشترك هو كذلك فيهما لكي يُبطلَ بموته من كان له سلطان الموت اي إبليس، ويُعتقَ كلَّ الذين كانوا مدة حياتهم كلَّها خاضعين للعبودية مخافةً من الموت. فإنَّه لم يتّخذ الملائكة قط بل إنما اتخذ نسل إبراهيم. فمن ثم كان ينبغي أن يكون شبيهًا بإخوته في كل شيء ليكون رئيس كهنةٍ رحيمًا أمينًا فيما لله حتى يُكفّر خطايا الشعب. لأنه إذ كان قد تألم مُجَرَّبًا فهو قادر على أن يُغيث المُصابين بالتجارب.
الإنجيل: لوقا 1: 24-38
في ذلك الزمان حَبِلَت أليصابات امرأةُ زخريا فاختبأت خمسة أشهر قائلة: هكذا صنع بي الرب في الأيام التي نظر اليَّ فيها ليصرف عني العار بين الناس. وفي الشهر السادس أُرسل الملاك جبرائيل من قِبَل الله الى مدينة في الجليل اسمُها الناصرة، الى عذراءَ مخطوبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود، واسم العذراء مريم. فلما دخل اليها الملاك قال: “السلام عليك أيتها المُنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء”. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن يكون هذا السلام؟ فقال لها الملاك: “لا تخافي يا مريم فإنك قد نلت نعمةً لدى الله. وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا وتُسمّينه يسوع. هذا سيكون عظيمًا وابنَ العلي يُدعى وسيُعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب الى الأبد. ولا يكون لمُلكه انقضاء”. فقالت مريم للملاك: “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلا”. فأجاب الملاك وقال لها: “إنّ الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تُظللك، ولذلك القدوس المولود منك يُدعى ابن الله. وها إن نسيبتك قد حبلت هي ايضا بابنٍ في شيخوختها وهذا الشهر هو السادس لتلك المدعوّة عاقرًا. لأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله”. فقالت مريم: “ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي حسب قولك”. وانصرف الملاك من عندها.
سرّ البشارة
"اليوم رأس خلاصنا وإعلان السرّ الذي منذ الدهور"، هكذا ترتل الكنيسة، اليوم، لمناسبة عيد بشارة سيّدتنا والدة الإله مريم، وقبولها بأن تحبل بالربّ يسوع لتلده إلى العالم إنسانًا تامًّا. وتؤمن الكنيسة، بناءً على النصّ الإنجيليّ والتراث الآبائيّ، بأنّ مريم، التي كانت عذراء قبل الحبل بيسوع (لوقا 1: 27)، قد بقيت عذراء بعد ولادته أيضًا. لذلك، أقرّ المجمع المسكونيّ الخامس (القسطنطينيّة، 553) بأنّها "الدائمة البتوليّة". وفي هذا السياق يقول القدّيس إيرونيمُس (+420): "مريم القدّيسة، مريم المباركة، أمّ وعذراء، عذراء قبل الولادة وبعدها (...) فننسب إلى قدرة الله ولادته لعذراء، وبقاءها عذراء بعد الولادة".
"السلام عليك أيّتها المنعم عليها، الربّ معك، مباركة أنت في النساء" (لوقا 1: 28). يلاحظ العلاّمة أوريجنّس (+235) أنّ الكتاب المقدّس قد خصّ مريم وحدها بهذا السلام: "حيّا الملاك مريم بطريقة جديدة لا أجدها في مكان آخر من الكتاب المقدّس". ويعلّق بطرس خريستولوغوس أسقف رافينّا (+450) على سلام الملاك لمريم "الربّ معك" بالقول: "لماذا سيكون الربّ معك (يا مريم)؟ لأنّه يأتي لا ليزورك وحسب، بل لينزل فيك جنينًا في سرّ جديد (...) عندما وضع الله الذي لا تسعه الخليقة كلّها نفسه في رحمك وصار إنسانًا".
يشدّد التراث الآبائيّ على المقابلة ما بين مريم، حوّاء الجديدة، وحوّاء الأولى. فالقدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202): "كما أغرت كلمة الملاك الساقط حوّاء بالهرب من الله، وعصت كلمته، هكذا تلقّت مريم بكلمة الملاك البشارة لحمْل الله بطاعتها لكلمته. أُغريت حوّاء فتمـرّدت على اللـه وسقطت، أمّـا مـريم فقـد أطـاعـت الله، وأمست مدافعة عن حوّاء. وكما أُخضع الجنس البشريّ للموت بفعل عذراء (حوّاء)، هكذا نال بالطاعة الخلاص على يد عذراء (مريم). وتقطّعت السلاسل التي كنّا موثوقين بها للموت". ويذهب "بيد الموقّر" (+735) المذهب ذاته فيقول: "حدثت العلّة الأولى للهلاك الإنسانيّ عندما أرسل إبليس الأفعى إلى المرأة التي خُدعت بروح الكبرياء. بل إنّ إبليس نفسه دخل الأفعى وخدع أبوينا الأوّلين، وعرّى الجنس البشريّ من مجد الخلود. لقد دخل الموت بامرأة (حوّاء)، وبامرأة دخلت الحياة (مريم). الأولى أغراها إبليس متخفّيًا بأفعى. والثانية لقّنها الله على لسان الملاك، فقدّمت للعالم مَن هو خلاص العالم".
"ها أنت تحبـليـن وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع" (لوقا 1: 31). يقول "بيـد الموقـّر" إنّ الملاك في بشارته لمريم يعلن بوضوح كامل أنّ "الربّ يسوع مخلّصنـا هو الابـن الحقيـقـيّ للـه الآب، والابـن الحقيـقـيّ لأمّ كانت بشرًا. فنعترف بأنّ ابن الله قد اتّخذ طبيعتـه الإنسانيّـة من العـذراء، وبأنّ الابن نفسه هو إله حـقّ من إلـه حقّ مساوٍ للآب في الأزليّـة". أمّا بـرودينـتيوس نـاظـم التسابيح (+410) فيقول إنّ مريم بقيت غير ممسـوسـة، ويتابع مضيفًا: "إنّه (المـولـود منها) ليس من لحم أب، ولا من دمـه، ولا من شهـوة بشـر. تُنفـخ الروح في رحـم البكـر الطاهرة فتحمل بقدرة الله. سرّ هذه الولادة يؤكـّد إيماننا بأنّ المسيح هو الإله (...) إيمان العذراء الفوريّ جذب المسيح إلى أحشائها فاختـزنتـه حتّى الولادة". وفي مكان آخر يقـول برودينتيوس: "مع اللاهوت اتّخذ الله ناسوتًا يشاركه في اللاهوت، وأنار البشر بمحبّته المتجدّدة".
"فقالت مريم: ها أنا أمةٌ للربّ. فليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1: 38). يلاحظ القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) أنّ مريم "لم يكن من السهل عليها أن تعرف السرّ الخفيّ منذ الدهور في الله، الذي تعجز القوات العُلويّة عن معرفته. مع ذلك، لم تنكر الإيمان، لم ترفض ما يترتّب عليها من واجبات، ولكنّها وافقت الملاك بملء إرادتها، والتزمت الطاعة. عند قولها أنّى يكون لي هذا؟ لم يستولِ عليها الشكّ، بل رغبت في فهم ما استعصى عليها". يؤكّد التراث الآبائيّ على جواب مريم الإيجابيّ للملاك للتدليل على حرّيّة مريم، وبأنّها لم تكن مسيّرة بل مختارة بكامل إرادتها البشريّة.
تلاقي النصوص العباديّة لعيد البشارة النصوص التفسيريّة للآباءن من حيث تشديدها على عظمة السرّ الذي يحوط حبل مريم بيسوع وولادته منها. فيوحنّا المتوحّد يندهش أمام هذا الحدث الفائق الطبيعة، فيقول: "يا للعجب! الله بين البشر. وغير الموسوع في مكان وسعه رحم. والذي لا بدء له دخل الزمن. عظيم سرّ الحبل به بلا زرع. وإخلاء ذاته يفوق الوصف! هذا سرّ عظيم جدًّا! الله أخلى ذاته، فتجسّد حينما أعلن الملاك للعذراء النقيّة عن حبلها". أمّا ثيوفانيس فيقول على لسان الملاك في قانون عيد البشارة: "أنت تلتمسين أن تعرفي منّي أسلوب الحبل، أيّتها البتول، لكنّ هذا الأمر لا يُفسّر! الروح القدس يظلّلك بقدرته الخارقة، وهذا سيتمّ لك".
يتوجّه أمبروسيوس اسقف ميلانو إلى المؤمن بقوله: "تعلّمْ ما هي ميزة العذراء. تعلّمْ منها التواضع. تلقَّ مغاليق السرّ". إذ نعيّد عيد البشارة اليوم، فليكن كلٌّ منّا مريم جديدة يخضع لإرادة الله ويسعى إلى تنفيذها في عالمنا اليوم وهنا. هكذا نبشّر بالربّ وننشر كلمته.
من تعليمنا الأرثوذكسي: الكنيسة
التلميذ: كان جارنا يتحدث مع أبي في شؤون الكنيسة لما قال له: انا أُؤمن بالله وهذا يكفيني. لا أحتاج الى الكنيسة ولا الى الكهنة ليُعلّموني كيف أَتصرف حسب إرادة الله. حاول أبي أن يُقنعه فلم يقتنع. ماذا يُقال له؟
المرشد: لا يكفي أن يؤمن الانسان بالله ويثق بوجوده حتى يخلُص. والخلاص غاية الحياة المسيحية. لا يستطيع أحد ان يكون مسيحيًّا، او أن يدّعي أنه مسيحيّ، بمفرده او “بنفسه” اي بالاستقلال عن جسد المسيح. ليس خلاص الإنسان نتيجة لسعيه ولاجتهاده الشخصي، الفردي بالاستقلال عن انتمائه الى الكنيسة وحياته فيها.
التلميذ: قال جارنا انه يريد أن يخلُص ليكون مع الله، وبدا عليه انه واثق من ذلك.
المرشد: لا يمكن لجارك ان يدّعي انه مسيحيّ وأن يبقى وحده خارج الكنيسة. الكنيسة ليست منظّمة ينتمي اليها الانسان اذا شاء، ثم يتركها عندما يحلو له. الكنيسة بنيان حيّ، جسدٌ رأسُه المسيح، وكل المؤمنين أعضاؤه معا، لا كل واحد منهم بمفرده. اذا قـلنا “جسـد المسيـح” الذي هو الكنيسة لا نعني به شعب الله وحده من دون المسيح، او المسيح وحده من دون شعب الله. نعني الاثنين معا. الكنيسة بنيان إلهيّ-إنسانيّ، انها حياة الله في الانسان وفي العالم كله. الكنيسة تُوحّد المسيح مع كل الذين اعتمدوا “بروح واحد” وصاروا “جسدًا واحدًا”. لذلك على جارك -وكل الذين مثله- أن يختار بين أن يكون مسيحيا في الكنيسة او لا يكون.
التلميذ: قال ان الله سيُخلّصه. كيف يُخلّصه؟
المرشد: انت تعرف أن المسيح صار إنسانا واتخذ جسدا من مريم العذراء وتألم ومات وقام من بين الأموات “ليجمع أبناء الله المتفرّقين الى واحد” (يوحنا 11: 52). هذا هو الخلاص، الحدث الذي يجعل الانسان جسدًا واحدًا مع المسيح الذي يحمله الى الآب ويشركه في الحياة الإلهية كما نقرأ في انجيل يوحنا الاصحاح 17. يقول الرسول بولس: “إن المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلّصها. وقد أحب المسيح الكنيسة بذل نفسه من أجلها ليقدّسها. هذه هي طريقة الخلاص لكل أعضاء الجسد ولا طريقة غيرها لكل واحد بمفرده.
التلميذ: ماذا عن شخصية كل إنسان وعلاقته مع الله؟
المرشد: الاندماج في جسد المسيح والاشتراك في حياة الجماعة المسيحية لا يُلغي شخصية كل واحد منا بل يُحيينا لنكون حجارة جيّدة تبني جسد المسيح اي الكنيسة. فلا يكفي الإيمان المجرّد الذي لا تأثير له في الحياة اليومية، ولا يُكلّف شيئًا. أن يكون الانسان من “أهل بيت الله” كما يقول الرسول بولس (أفسس 2: 19) يعني جهادًا ومعركة مستمرة مع نفسه ليبقى مسكنًا لله في الروح القدس. أخيرا دعني أُذكّرك بصلاة نقولها في أوّل يوم من الصوم الكبير: “لقد صنعتَ خلاصًا ايها المسيح في وسط الأرض لمّا بَسطْتَ يديك الطاهرتين على الصليب، فجمعت الأُمم كافة اليك وهي تصرخ: يا رب المجد لك”.
عيد البشارة / الأحد الرابع من الصوم / أحد القديس يوحنا السُلّميّ
الأحد 25 آذار 2012 العدد 13
رَعيّـتي
كلمة الراعي