Friday, February 24, 2012

بقلم: الأرشمندريت د. ميلاتيوس بصل
القانون الكبير هو أحد النماذج التعبيرية الخاصة والفريدة لفرص العبادة في الصوم الأربعيني الكبير. نتكلم هنا عن قانون يحتوي في طياته على قطع منظومة تحث المؤمن على الصحوة والتواضع والتوبة والخشوع.
في لغة الكنيسة "قانون" يقصد به نشيد كنسي ابتهالي، يتكلم عن موضوع روحي معين، مؤلف من عدد القطع المرتبة على تسعة أوديات (مجموعة شعرية).
أما القانون الذي نتحدث عنه "القانون الكبير" فسمي بالكبير لأن كل أودية عدد كبير من الطروباريات (قطع ابتهال) وليس كالقوانين العادية التي لا يتراوح عددها عن خمسة قطع.
أما مؤلف وناظم هذا القانون هو القديس إندراوس الأورشليمي الكريتي.
إندراوس القديس ينحدر من تخوم دمشق الشام ولـد نحو سنـة 660م لوالدين تقيين، وتأخر عن الكلام وبقي أخرساً حتى سن السابعة، أمر جلب الحزن لوالديه، إذ انتابهم خوف على ولدهم أن يبقى أخرساً مدى عمره. ولكن الله الرحيم الشفوق ترأف على هذه العائلة وبقوته العجائبية منح الطفل النطق، وكان ذلك عندما أخذت الأم طفلها إلى الكنيسة لتناوله الأسرار الطاهرة، فسجدت وصلت وطلب بحرارة تدخل العناية الإلهية، وما أن تناول الأسرار الطاهرة الإلهية أخذ ينطق ويتكلم وكأنه كان ينطق منذ صغره.
بعد هذه العجيبة أدخل إلى المدرسة، وكانت العناية الإلهية معه، وبذكاءه وعزمه استطاع التقدم بالدراسة وبالأخص في موضوع الفلسفة. كما وأنه بذات الوقت زرع نفسه في الفضيلة وأصبح من عشاق الحكمة الحقيقية الإلهية.
لم يكن لديـه أي شعور أو ميلان نحو أمور العالم، طلب من والديه جيورجيوس وغريغوريا أن ينذروه ويكرسوه لله، لاسيما خادما للقبر المقدس، قبر ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح القابل الحياة. ولم يتأخر والداه عن تلبية رغبة ابنهم في خدمة الرب بالنسك والرهبنة، فأرسلوه إلى أورشليم، وقتئذ كان بطريرك المدينة المقدسة أورشليم ثيوذوروس، رجل تقي متقدس، فاستقبله وجعله راهباً وشماساً. الشاب إندراوس أثبت جدارته بتقواه وعلمه، فأصبح بمثابة سكرتير للبطريرك. وسبب تلقيبه بالأورشليمي كان خدمته في أورشليم في كنيسة القبر المقدس. والكريتي لأنه أنتخب أسقفاً على جزيرة كريت اليونانية.
 انتدبه بطريرك أورشليم مع كاهنين آخرين ليمثلوا كنيسة أورشليم في المجمع المسكوني السادس الذي عقد في القسطنطينية سنة 680م في عهد الإمبراطور يوستنيانوس رينوتيمثوس. وبجدارة نال إندراوس احترام واعجاب جميع الحاضرين في المجمع، الذي حكم على هرطقة المشيئة الواحدة.
لم يعد اندراوس إلى أورشليم بل بقي في القسطنطينية متعبداً وناسكاً في أديرة المدينة المالكة، كانت صحبته الحياة النسكية والدموع والسهر والصلوات والأصوام. وبجهاداته النسكية أنعم الله عليه مرة أخرى إذ استحق الارتقاء إلى السماء فعاين النور الإلهي وأخذ عربون الوحدة السرية مع المسيح الختن.
حياة إندراوس وجهاده الروحي أفاد كثيرين، فقد اعتنى ببيوت الأيتام، إذ أصبح الأب الحقيقي للفقراء والأيتام. دعي من منسكه وأسيم رئيساً على أساقفة كريت. وهناك رعى شعبه بغيرة ودفء ومحبة وعمل على خلاص الجميع. وقد صنع، بمشيئة الله، العجائب الكثيرة.
في عودته من إحدى زيارته إلى القسطنطينية، عاين رؤيا إلهية، أعلن له فيها أنه لن يرى رعيته بعد الآن، وهكذا رقد في بلدة أرسوس في جزيرة ميتيلني نحو سنة 720م. يعيّد له في الرابع من تموز من كل عام.
القديس إندراوس خلف وراءه الكثير من المؤلفات اللاهوتية، وقد تميز بتأليف الأناشيد الروحية الكنسية وقد نظم العديد من الخدم والأناشيد الكنسية، والتي منها القانون الكبير.
القانون الكبير
القانون الكبير، تاريخياً هو أول قانون في كنيستنا نظم موسيثياً. وقد بوشر بترتيله في كنيسة كريت، عندما كان القديس إندراوس أسقفاً على الجزيرة. واليوم يرتل في الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. ويرتل على مراحل في مساء أول أربعة أيام من الصوم الأربعيني المقدس في خدمة صلاة النوم الكبرى. ويرتل وحدة كاملة مساء يوم الأربعاء من الأسبوع الخامس الصوم المقدس، ويليه خدمة البروجيازميني (القدسات السابق تقديسها)، وفي الأديرة يرتل مع صلاة سحر يوم الخميس من الأسبوع الخامس للصوم ونسبة إليه يسمى "قانون الخميس الكبير".
 الهدف الرئيسي للقانون الكبير هو حث ودعوة المؤمنين إلى التوبة. لهذا يرتل في بداية الصوم الكبير ونهايته. المؤمن يحتاج إلى دعم روحي وبالأخص في فترة جهاد الصوم. القانون الكبير يريح المؤمن نفسياً، ويقويه بأسلحة الجندية الروحية ويهبه قوة وعزيمة.
القانون الكبير، كأنه نهر دموع ونياح، ينبع من الكتاب المقدس. إذ استوحى القديس إندراوس منظومه الشعري من العهد القديم والجديد، فهو لم يترك تقريباً أية قصة أو حدث في الكتاب المقدس إلا ونظمه بطريقة شعرية ابتهالية. اتخذ الأحداث منذ آدم وحواء حتى عهد رسل العهد الجديد وقارنها بشكل منظوم مع حياته وحالته النفسية التي تمثل حالة ونفسية الإنسان. وبالأحرى يستذكر الأعمال الصالحة لشخصيات الكتاب المقدس، ويدين نفسه بتواضع واقعي. إذ يعطي انعكاس لكل نفس مؤمنه أن تتقلد بأعمال القديسين الصالحة. وكذلك يستذكر الأعمال السيئة المذكورة في الكتاب المقدس والمنوه عنها، لكي يوبخ نفسه ويحرضها إلى الابتعاد عنها، والعودة إلى الحضن الأبوي، إلى الحنان الإلهية، الأمر الذي يتم فقط بدموع وتوبة.
بالفعل، هذا القانون ليس هو فقط الأكبر والأطول من جهة عدد القطع المنظومة فيه، وإنما هو قانون الأكثر صحوة في كنيستنا. غناه غير محدود. فيه ميزة خاصة وفريدة في تحويل حياة المؤمن إلـى الفضيلة. المؤمن
الذي يرتل أو يسمع تسابيح القانون يُقاد إلى اكتساب التوبة وانسحاق القلب والخشوع. التحول عن الخطيئة، العيش ضميرياً في سر الخلاص. لهذا ليس صدفة أن تكرر العبارة "ارحمني يا الله احمني"، إذ لا نطلب شيئاً آخراً سوى رحمة الله الخلاصية.
قد أحاطت الخطيئة بالإنسان، تحوم حوله ناشبة أسهمها الشريرة. فالقانون الكبير من بداية الأودية الأولى، يشدد الناظم بواقعية التعبير قائلاً "أيها المسيح من أين أبتدئ وأنوح.." أين سأنتهي، كيف سأتخلص من خطاياي؟ "أخطأت، عصيت، نظرت السوء.." كل كلمة من هذا المنظوم الشعري ستذكر لحظة من لحظات حياتنا التي بها تجرأنا بسخافة وابتعدنا وتغربنا عن الله. يذكرنا بساعة الدينونة، ويحثنا على نقض الذات، والتقرب إلى الله. الوقت يمر، الحدود تضيق، زمن يركض ويختفي كحلم. نفس الإنسان يُغلق عليها في الظلمة، وتحتج وتجاهد وتطلب الخلاص، إذاً أركض نحو جهاد التوبة. "يا نفس، انهضي لأية حالة ترقدين..". الإنسان وهو ما زال إنسان الخطيئة، لن يجد أبداً الراحة النفسية والخلاص، فقط يجدها عندما يأتي إلى رحمة أحضان الله الأبوية. "أنظر إلى توبتي، أنظر إلى حزني.. ويا رؤوف أرحمني يا إله آبائنا". الناظم الشريف، القديس إندراوس، يضع في فمي اعترافي القلبي. أنظر تواضعي أنظر حزني، وأرسل رحمتك الغنية أيها الإله الكثير الرأفة.
 مهما يكون عمق الخطيئة والإدانة لكلواحد منا. فالإنسان يستطيع، ويجب، أن يختار مسار العودة إلى الله. هذا المسار، المسيرة نحو الخلاص، كثيراً ما تمر بعقبات وانحرافات، فيتطلب إذاً التعب والعرق والدموع والانسحاق وفي كثير من المرات يحتاج دم! لأن الجهاد يستحق هذا الكد والتعب، لأنه يتكلل بـالخلاص. فلا يوجد مكان آخر فيه العزاء، فقط المسيح، بصلبه وقيامته، أبطل كل عدم رجاء وحوّل اللامخرج إلى مخرج من العبودية إلى الحرية والخلاص.
المسيح صار إنساناً لأجلي "فيا نفسي توبي". "المسيح تأنس ودعى اللصوص والزواني إلى التوبة، فتوبي يا نفس لأن هذا قد فتح باب الملكوت ويستقدم فيخطفه الفريسيون والعشارون والزناة إذا عادوا راجعين".