اذار ٤ القديس البار جراسيموس
عندما بدأ ت الزمجرة ، دب الرعب في قلوب كل الذين كانوا في المكان . لقد اصاب الجميع هلع ، باستثناء الراهب المتواضع جراسيموس . وهذا الراهب انسان بسيط سبق له ان تعلّم كيف يحب كل خلائق الله بالعيش بينها ناسكا في البرية . اصاغ هذا الرجل الجليل السمع جيدا الى مصدر الزمجرة ، ثم التفت الى الاخوة وطمأنهم بالكلمات التالية قائلا : لا تخافوا ، فهذا الاسد لن يؤذي احدا . انه يزمجر من المه فقط . "
بعد هذه الكلمات راح الراهب الشجاع يسير باتجاه الصوت المنبعث من كومة من ورق البلح ، كان امامه على بعد خمسين ياردة، بينما راح الرهبان ينظرون الى بعضهم بعيون جاحظة . كيف لقائدهم ان يجسر على المضي الى هناك ؟ اما هم فلم يتجاسروا ان ينظروا ، بل راحوا ينتظرون كيف سيهاجم الوحش هذا الراهب الشجاع مؤسس ديرهم في فلسطين ، ويقضي عليه . وكان الدير قد شيد سنة 450 م
ماهي الا لحظات حتى وصل الراهب الى القطة الكبيرة الرابضة على الارض وهي تتلوى في المها ووجعها . فابتسم ، ثم انتصب امام هذا الحيوان الضخم وامسك بذراعه اليمنى ، فنظر اليه الاسد بعينين شبه مغمضتين ، وسرعان ما بسط ذراعه الملتهبة ، على يد الناسك . كان في وسط مخلبه شوكة ضخمة انغرست عميقا في لحم ذراعه ، فقام الناسك ، وبدأ يعمل لأزالتها .
منذ ذلك الحين ، راح الاسد يعيش كقطة وديعة في ذلك الدير . اما الرهبان السبعون الذين شهدوا ما حدث ، فراحوا ينذهلون يوما بعد يوم عندما بدا لهم الاسد اليفا ووديعا .
اما بالنسبة لجراسيموس ، احد اكثر النساك اتضاعا ونكرانا للذات في كل تاريخ الكنيسة ، فقد كان الحدث امرا اعتياديا .
ولد القديس جراسيموس في مدينة ليكيا من اعمال اسيا الصغرى حوالي سنة 400 م . تعرّف الى المسيحية طفلا ، ومع بلوغه طور المراهقة راح يطوف القفار المصرية المعروفة باسم (طيبة ) .
انه انسان هادىء لطيف المعشر يتمتع بنزعة طبيعية للعيش في العراء . كان يرضى ان يتناول بضعة حبات من البلح فقط. وقلما كان يأكل طعاما مطبوخا . كان نومه امرا غير مهم . واذا كان الطقس دافئا وجافا ، كان يستلقي على الارض حيث هو ليشكر الله الذي اعطاه تلك الراحة الليلية . اما اذا كانت الارض مبللة بالمطر ، فكان ينظر حوله بحثا عن كهف يخلد فيه لبضعة ساعات . عاش على هذا المنوال ردحا طويلا من الزمن ، في مصر ، بفرح كبير . ثم قرر بعد ذلك انه يود ان يقوم بزيارة الاماكن المقدسة في فلسطين ، فانطلق الى هناك . حط به الرحال مع بعض النساك عند ضفاف الاردن سنة 450 م ، وما هي الا سنوات قليلة حتى نمت هذه الشركة الصغيرة لتصبح بعد حين واحدة من اكبر اديار الشرق الاوسط( وما تزال الى اليوم ) . اقتنع الاب جراسيموس ان يقوم بأعمال يومية بسيطة ، تكون بمثابة طريقة لتمجيد الله. وقد حدد هذا الرئيس المعيّن حديثا ، نوعا جديدا من نظام لرهبانه راحوا بموجبه يقضون نهاية الاسبوع وهم يحيكون السلال والبسط في قلاليهم . لم يكونوا ليطبخوا ، بل كان طعامهم يقتصر على البلح والخبز الجاف . بدا النظام هذا جيدا لهم . وبقيادة وتوجيه هذا الاب الحكيم ، كان يتوجب على الرهبان ان يتركوا قلاليهم مشرّعة ، وهذا يعني انه بمقدور كل من اراد ، ان يدخلها ليأخذ ما يشاء . ولما كان الرهبان لا يملكون شيئا ، فهم لم يكونوا لينزعجوا من هذا التدبير .
اما في نهاية الاسبوع ، فكانوا يتابعون العبادة البسيطة في الكنيسة ، ومن ثم يجتمعون للاحتفال بالوليمة التي كان قوامها بعض الخضار والقليل من النبيذ . وفي ذروة الاحتفال ( القداس الالهي )، كان كل راهب يتقدم يتقدم من الاب رئيس الدير فيضع عند قدميه السلال والبسط التي حاكها في ذلك الاسبوع ، اما هو فكان يبدو على محياه السرور والانشراح مما يفعلون .
بساطة هذه الترتيبات كان من شأنها ان جعلت الحياة اسهل مما كان من الممكن ان تكون عليه . على سبيل المثال : باكتفاء الراهب بجبة واحدة ، حلّت مسألة الغسيل ، وتوزيع الغسيل، الى الابد . واذا ما اراد الراهب ان ينظف جبته كان ينزل بها الى النهر كي يغسلها هناك .
ولعل المغبوط جراسيموس آثر هذه الحياة لأنه سبق ان تعلم من تجربته الشخصية ان الافكار المعقدة،يمكنها ان تكون نبعا لمتاعب لا تنتهي . اما في شبابه فقد جرّب لبعض الوقت بأحدى الهرطقات الكبيرة في زمانه ، في القرن الخامس ، والتي هي مدرسة عمل فيها بعض الاكليريكيين الذين عرفوا بالمونوفيزيتيين ، وقد تميز فيها مفكران كبيرا هما : افتيخيس وذيوسقوروس . وقد قامت هذه الهرطقة الذائعة الصيت على فكرة مؤداها ان المسيح يسوع يمتلك وجها ازليا فقط ، وذلك لكونه يمتلك اقنوما ازليا في الثالوث ، الا انه لم يكن انسانا فانيا . بكلام اخر ، المسيح هو الله ، لكنه ليس انسانا .
ولئن كان القديس جراسيموس قد اخذ ببعض هذه الافكار في شبابه ، الا انه سرعان ما ادرك اعوجاجها ، والشكر يعزى لأفكار والحاحات صديقه العزيز محارب الهرطقة نفسها، القديس افثيميوس.
امضى هذا القديس سنوات عدة يقاوم التعليم المزيف دفاعا عن الارثوذكسية في الكنيسة المقدسة . اما في المجمع المسكوني الرابع ( 451 ) ، فقد لعب دورا بارزا في دحض المونوفيزيتية مدافعا عن العقيدة الحقيقية في الكنيسة المقدسة ضد فساد هذه الهرطقة .
رقد القديس جراسيموس بالرب سنة 475 ، وكان في ذلك الحين قد اصبح وجها محبوبا طبقت شهرته الافاق بسبب تقواه وتواضعه ومحبته لجميع الحيوانات المفترسة التي كانت تطوف الارض هناك . وعندما لفظ انفاسه الاخيرة ، كان بجانبه الاسد الذي سبق للقديس ان اراحه من المه عندما انغرست في لحم ذراعه شوكة كبيرة . رقد الاسد ايضا بجواره ،فدفن بقربه . والى هذا اليوم ، مايزال الاسد اللطيف يصور على ايقونة الاب القديس رابضا عند قدميه . تظهر لنا سيرة القديس جراسيموس القيمة العظيمة التي يمتلكها الذين يحيون حياة بسيطة امام الله القدير . لأن الذين يعرفون كيف يرفعون الشكر للرب الاله مع تنفسهم ، فان قطعة خبز ، وبضعة بلحات تكون لهم وليمة عظيمة تعلو على كل وليمة .
طروبارية :باللحن الاول
" ظهرت في البرية مستوطنا ، وبالجسم ملاكا ، وللعجائب صانعا ، وبالاصوام والاسهار والصلوات تقبلت المواهب السماوية . فأنت تشفي السقماء ونفوس المبادرين اليك بايمان ، يا ابانا المتوشح بالله جراسيموس . فالمجد لمن وهبك القوة . المجد للذي توجك . المجد للفاعل بك الاشفية للجميع . "