القديس يوحنا السلمي
عند منعطف ما في حياته الرهيبة ، انسحب هذا البار الى مغارة يقضي فيها عشرين سنة متأملا في مجد الله القدير ، وفي الارتقاءات الروحية المطلوبة لأدراك هذا المجد برؤية جلية وثابتة.
وطوال عمره الذي قضاه متنكرا لذاته ، وعاكفا على التعمق الداخلي ، راح القديس يوحنا السينائي يدون واحدة من اهم الوثائق في تاريخ الكنيسة المسيحية الاولى : اعني بها كتابه " السلم الى الله " . انه كنز ثمين يعج بالرؤى التي بها يمكن بلوغ الحكمة الروحية عند الراهب المستنير التائق الى الله .
يوحنا هو صوفي كامل . عاش بسيطا ، وتجنب التطرف ، عاكفا على الاعتدال في كل ما فعل . بالنسبة ليوحنا السلمي الذي امضى معظم حياته ( 483- 563 ) مجاهدا في دير شهير يقع على بضعة خطوات من العليقة الملتهبة وغير المحترقة التي استوقفت موسى النبي قبل الفي عام من ظهور الحياة الرهبانية التي تقضي ان يتعلم المرء كيف يكبح غروره من اجل عبادة اسمى للرب اله الكون .
وكذلك المبشر العظيم في العهد القديم ، في سفر الجامعة ، الذي قال: باطل الاباطيل " ، فالقديس يوحنا كرس معظم سنوات حياته على الارض للجهادضدالازمات والمشكلات الروحية التي تتسبب بها المواقف الانسانية تجاه الكبرياء والمجد الباطل . كيف يمكننا بنجاح ان نهزم الانا الكامن فينا ، كي نطيع ارادة الله على نحو اكمل ، وبجهوزية اكبر؟ وبمعنى حقيقي ، فان حياةالقديس يوحنا السلمي كانت كلها مكرسة للاجابةعن هذا السؤال ، الامر الذي ابهج الكنيسة المقدسة واقلقها منذالبداية ، عندما سار الرب على طرقات الجليل المغطاة بالغبار والاتربة بحثا عمن يصادفهم كي يخلصهم بانجيل محبته وفدائه .
بالنسبة لهذا البار يوحنا السلمي الذي امضى اكثر من 60 سنة في انضباط روحي شديد في اديار جبل سينا ، فان الحل لمشكلة باطل الاباطيل ، صار حجر الاساس لعمله المسيحي العظيمفي الارشاد الروحي : السلم الى الله . انه مليء بالرؤى العجيبة التي الهمت المسيحيين طيلة قرون . " السلم الى الله " يضع لمسة خاصة على النصرة على الاباطيل الانسانية وذلك على النحو التالي : ينتصب الباطل امام كل فضيلة . عندما احفظ صيامي ، فانا اسلم للباطل . وعندما احجب صومي عن الاخرين، اجيز لنفسي الاكل ، فأسلم للباطل . عندما اكتسي لباسا بهيا ، يخامرني حب المجد .وعندما ارتدي ثيابا رثة ، يهزمني الباطل . اذا وقفت كي اتكلم ، اتداعى تحت قوة الباطل . واذا رغبتبالصمت ، اسلّم للباطل .
في كل مرة تظهر هذه الشوكة ، تبدو متجهة نحو الاعلى . انه من المجد الباطل ان تسبح الله في الظاهر ، الا انك بالفعل تسعى الى ارضاء الناس ، وليس الله ......الناس المنعجرفون يسعون الى الهزء والاهانة ، اما سماع المديح دون الشعور باللذة ، فهذا متاح للقديسين فقط ، وللذين لايستحقون الملامة . وهكذا ، فمن لم يكن امينا في الصغيرات ، لا يكون امينا في الكبيرات ، وهو يرزح تحت المجد الباطل .
وكما يبدو جليا من اقتباس " السلم الى الله "، فالقديس يوحنا السلمي ، كان كاتبا رائعا وموهوبا ، دقيقا وانيقا للغاية . ومع ذلك فهو ابسط انسان لدرجة انه لايبالي بمنجزاته .
ولد سنة 483 . وكان ابنا لوالدين تقيين هما كسينفون ومريم. عملا هذان الزوجان كي ينال ابنهما افضل قسط من الثقافة ، الا انه تعمق في الاسفار الالهية وتعاليم الكنيسة .
ولما بلغ السادسة عشر من العمر ، شق طريقه الى طور سيناء ، الى الدير الواقع في المكان الذي سار فيه النبي موسى . انه تلميذ مجتهد نجيب ، كان يدرس لمدة تربو على 19 عاما تحت ارشاد الراهب القديس مارتيريوس . وبعد رقاد معلمه المحبوب ، انكفأ هذا الراهب الى البرية لسنوات بحثا عن الله . وكان يقتات مما تجود به الارض من اعشاب ، وبلح وبعض الخضروات البرية التي تنمو هنا وهناك في البرية . كان يفترش الارض عارية كل مساء سعيدا بتحرره من الاهتمامات الارضية للانشغال بتسبيح الله كل حين .
وعندما صار في الخامسة والاربعين اختير بعد ان صقله الدهر ومحّصته الايام ليكون رئيسا على الرهبان في اعالي جبل سينا ، فراح يقضي عمره يعلمهم كيف يروضون الانا في بحثهم عن الله . واخيرا رقد بين رهبانه عن عمر ناهز الثمانين في سنة 563 وقورا . وقد وصفه الراهب دانيال على النحو التالي : " لقد ارتقى جسده ذرى سينا ، اما نفسه فبلغت ذرى السماء . "
وفي السنوات التي اعقبت رقاد هذا الراهب القديس ، ظهرت روايات عديدة تتكلم عن قدرته العجائبية في التواصل مع غير المحسوس . وفي احداها ارسل القديس يوحنا تلميذه الشاب موسى في مهمة في احدى الايام الحارة . وبعد ان انجز موسى المهمة المسندة اليه ، اخذ لنفسه قسطا من الراحة في احدى الظلال الباردة . وسرعان ما غط في نوم عميق ، وراح يشنخر بقوة دون ان يدري انه كان في خطر داهم .
الا ان ساعة هذا الراهب الشاب لم تكن قد اتت بعد . فبينما كان يغط في نومه ، كان معلمه منشغلا بالصلاة داخل قلايته . وبغتة ظهر ما اعترض رؤيته ، فقد ملأه الهلع وأحس ان تلميذه على وشك ان يلقى حتفه ،فراح يصلي من اجله بحرارة متضرعا الى الرب يسوع المسيح كي يحميه من اي اذى .
وعند ظهيرة اليوم التالي ، عاد الراهب موسى الى ديره وشكر اباه لأنه انقذه . لأنه بينما كان نائما رأى في حلمه ان الاب يوحنا يناديه المرة تلو الاخرى . فأفاق من كابوسه ، وانتصب على قدميه قبل ان تنزلق صخرة ضخمة من علو لتصطدم بالمكان الذي كان مستلقيا عليه .
وتصف رواية اخرى تصفكيف كان الرهبان جالسين لتناول طعام العشاء مع 600 من الزوار الحجاج ، وبغتة لاحظوا انسانا غريبابينهم . وبلمح البصر فهم الحاضرون في غرفة الطعام ان هذا الغريب ليس الا النبي موسى الذي سبق ان اقتبل الوصايا العشر على بعد مئات الامتار من المكان الذي كانوا هم فيه . كانالنبي يبتسم بحبور وبشاشة ،كما رووا عنه لاحقا ، وقد بدا منشرحا ان الرهبان اختاروا ان يقيموا في جوار المكان الذي تردد هو عليه.
تعلمنا سيرة القديس يوحنا السلمي بعض الدروس القيمة عن اهمية التواضع في حياتنا . وبكل تأكيد لابد ان هذا القديس لاحظ كيف ان اللفظة اليونانية لل " تواضع " تتضمن اشارة الى الرطوبة ، العنصر الاساسي في الخصوبة ونمو النباتات . القديس يوحنا يقدم لنا نموذجا نقتدي به لعيش الحياة الروحية . من جهة كان عبقريا فذا وضع كتابا كلاسيكيا ، ومن جهة ثانية كان هو نفسه راهبا بسيطا لم يكن يريد سوى ان يعتني بالخيار الذي ينمو في بستان الدير ، وفي الوقت نفسه يسبح الله .
كانت حياته كلها تتمحور حول الله . وقراءة كتابه " السلم الى الله " ، من شأنها ان تدنينا من معرفة هذا الرجل . ولئن كان امضى معظم حياته في طور سيناء ، في مصر ، الا ان تأثيره على اجيال المسيحيين الذين عاشوا في الارض المقدسة يبدو كبيرا وعميقا .
ميغاليناريون :
مثل السلم الذي كان يصعده يعقوب الى السماء ، انت بكلماتك الالهية ، اقمت السلم الذي يأتي بالمؤمنين الى سمو الفضيلة ايها الاب المغبوط يوحنا " .
طروبارية : باللحن الثامن
"للبرية غير المثمرة بمجاري دموعك امرعت ، وبالتنهدات التي من الاعماق اثمرت باتعابك الى مئة ضعف . فصرت كوكبا للمسكونة متلألئا بالعجائب يا ابانا البار يوحنا . فتشفع الى المسيح الاله ان يخلص نفوسنا . "
قنداق : باللحن الاول
" من كتاب تعاليمك الحاملة اثمارا دائمة نضارتها ايها الحكيم ، تلذذ قلوب المصغين اليها بتيقظ ايها المغبوط. لأنها سلم مصعدة من الارض الى المجد السماوي الثابت نفوس المكرمين اياك بايمان . "