كان محاربا شجاعا وعنيدا مقداما ضد الهرطقة وقد دفع ثمنا باهظا بسبب استقامته اللاهوتية اثناء المراحل الاليمة عندما ابعد عن السدة البطريركية ، لابل طرح في السجن ايضا ، ولبعض الوقت . وفي حياته المليئة بالصخب ( 315 – 386 ) شهد القديس كيرلس بعض الصراعات العقائدية العنيفة في تاريخ الكنيسة الاولى .
ومع ذلك فان دفاعه المستميت عن العقائد الارثوذكسية المحددة في انجيل يسوع المسيح ، وقد قدّر له ان يلعب دورا مركزيا في سحق عدد من الهرطقات الخطيرة ، وحماية نقاوة التعاليم المسيحية .
انه كاتب ولاهوتي بارع ، واكليريكي لطيف ، وراهب متواضع ، يثق بالله القدير الذي يحمي كنيسته والاساقفة المخلصين الذين اختارهم لقيادتها . بالنسبة للبطريرك المؤمن ، فان هذه الثقة دفع ثمنها في احدى الليالي في اورشليم ، وقبل ستة عشر قرنا من الان . وما حدث في تلك الوقيعة التي لا تنتسى ، ما يزال سرا عند كل المسيحيين في كل مكان .
بدات الحادثة بعد مرور ساعات على منتصف الليل بحسب مؤرخي الحقبة ، بينما كان البطريرك في مقره بجوار وسط المدينة . ومن جديد فان القديس المجاهد وجد نفسه عاجزا ان يأخذ لنفسه قسطا من الراحة ، وذلك لسبب وجيه : كنيسته كانت وسط الضجيج والصخب .
انقاد بعض الاساقفة المرتدين ، واقتربوا من الاعتقاد بهرطقة رهيبة مفاد تعليمها ان المسيح لم يكن في الله منذ الازل ، بل ظهر في برهة تاريخية محددة . وعرفت الهرطقة بال " اريوسية " وقد اوشكت ان تمزق الكنيسة بتعاليمها المزيفة . للحال فان اساقفة من اورشليم وصولا الى القسطنطينية ، دعوا كيرلس البطريركان يتنكر لتعاليم الاريوسية المزيفة ، او يفقد موقعه كراع للمؤمنين في مدينة اورشليم العظمى .
وكيرلس رجل مرهف الاحساس مقت الصراع والاقتتال ، واثر ان يمضي ايامه في تأمل هادىء بالله القدير . ولد القديس كيرلس سنة 315 في عهد القديس الامبراطور قسطنطين الكبير . وكأبن لوالدين تقيين ثقفاه في الاسفار المقدسة وتعاليم الكنيسة . ترعرع كيرلس راهبا ، فكاهنا وشيخا احيانا ، وقد وجد ان الله اختاره ليخلف رئيس الاساقفة مكسيموس بعد رقاده سنة 350 رئيسا على مدينة اورشليم .
وفي غضون سنة ، فان النضال المستمر ضد الهرطقة التي اطلقها اريوس ، انفجر الى حرب في كل مكان ، الامر الذي هدد الكنيسة كلها بالفوضى . وبازدياد ، راح راح الاساقفة الاريوسيون يهاجمون كيرلس والاساقفة القديسين الاخرين في اورشليم ، مصرّين انه يجب ان يبسل هؤلاء ، ويجري اقصاؤهم ونفيهم .
وبحزن شديد ، راح الراهب المتواضع يصلي في الايام الاخيرة طالبا من الله علامة حسية ومنظورة ، في كل اورشليم ، وذلك كي يشير الى تلك العلامة كبرهان على ان كنيسة اورشليم تسير في الطريق القويم عندما ترفض الاريوسية .
هذا هو الامر الذي جعل البطريرك مرهقا وهلعا في صبيحة يوم العنصرة من سنة الرب 351 . العينان مغلقتان ، اما هو فراح يضرع الى الله الاف المرات كي يحفظ الانجيل المقدس من النجاسة الاريوسية ....الى ان التمع وميض نور في الغرفة لفت انتباهه .
نظر القديس كيرلس باتجاه النافذة ، وبالكاد صدّق ما رأى . كاننور مبهر يغمر كل المكان . وفي طرفة عين ، انتصب على قدميه ، وراح يحدق في السماء . ثم عاد والتقط انفاسه . الاف من الاورشليميين تيقنوا في الايام التالية من صليب ناري ملأ السماء . كانالصليب كبيرا جدا بحيث انه بدا اشد ضياء والتماعا من الشمس ، وقد انبسط في شكل قوس ليغطي كل المسافة التي بينجبل الزيتون والجلجلة حيث صلب الرب .
وبكل تأكيد ، استجيبت صلواته : وهنا كانت العلامة !وما هي الا ساعات حتى راح يدوّن ما سوف يكون تاريخا لا يقدر بثمن : انها الرسالة التي بعث بها الى الامبراطور كونستانتيوس ، وفيها وصف الاعجوبة المتعلقة بظهور علامة الصليب بتفصيل منقطع النظير ، لا ينتسى .
منذ تلك اللحظة ادرك البطريرك العظيم ان النضال ضد الاريوسية سوف ينتهي اخيرا ، وان نقاوة تعاليم الارثوذكسية سوف سوف يصونها يسوع المسيح رب القداسة . ولكن لابد من معارك عدة . وبالفعل ، فقد وجد الاسقف المتواضع نفسه منفيا ، ومبعدا عن ابرشيته في مناسبات ثلاث منفصلة من قبل كونستانتيوس وخليفته الامبراطور فالانس (364 – 378 ) . وفي النهاية فان خادم الله الوديع سوف يسترد السدة البطريركية بمؤازرة البطريرك القديس ثيودوسيوس الكبير ( 379 – 395 ) . وسوف يظل بطريركا على اورشليم يلعب دوره الدقيق الى حين رقاده في الحادية والسبعين من العمر سنة 386 .
القديس كيرلس ترك لنا كتاباته التي هي حجر الاساس للتعاليم الاساسية في الكنيسة المقدسة. لقد وضع هذا الكاتب الشهير عددا من الاعمال المهمة في اللاهوت والعقيدة ، وضمن لنفسه مكانة في تاريخ المسيحية . والدستور واضح والايمان عند الذين يعلنون حقيقة الانجيل الشريف يعبر عنها بكلمات على النحو التالي : "اؤمن باله واحد اب ضابط الكل ، خالق السماء والارض ، كل ما يرى وما لا يرى . وبرب واحد يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل كل الدهور . اله من اله . حياة من حياة . نور من نور . به كان كل شيء . الذي من اجلنا نحن البشر ، ومن اجل خلاصنا نزل وتجسد بالروح القدس ومريم العذراء وصار انسانا . وصلب ..... ودفن وقام في اليوم الثالث كما في الكتب . وجلس عن يمين الاب . وسيأتي بمجد ليدين الاحياء والاموات وملكه لانهاية له . وبروح واحد قدوس ، المعزي ، الذي تكلم بالانبياء . وبمعمودية واحدة للتوبة ومغفرة الخطايا . وبكنيسة واحدة مقدسية رسولية ، وبقيامة الجسد في الحياة الابدية .
وبين كتابات القديس كيرلس الاورشليمي الفائقة الاهمية ، هناك مناظراته التعليمية التي حددت وثبتت المعتقدات الاساسية وممارسات المسيحية الارثوذكسية . كذلك فقد وضع عظة شهيرة ومقنعة عن " بيت حسدا " بالاضافة الى مقالات قصيرة تتناول وجوها مختلفة من الايمان المسيحي .
تعلمنا سيرة القديس البطريرك كيرلس الاورشليمي درسا مهما عن الصبر في الرب . ومن جديد فان هذا الاسقف المفكر والحكيم تعرض لتجربة اليأس بسبب الصراع الفوضوي الذي تهدد الكنيسة المحبوبة . وبالرغم من حزنه الشديد ، ظل متمسكا بايمانه ، وفي النهاية كوفىء بعلامة دللت على عناية الله الابدية بخدامه الاوفياء . وكمحارب من اجل حقيقة الرسالة الالهية المعلنة ، فقد الهم اجيال المسيحيين كي يتمسكوا بايمانهم في خضم العواصف الحتمية التي تعصف بحياتنا الزائلة .
ونحن نكرمه لتعاليمه السنية وشجاعته ، رغم الاضطهاد ، كي نظل اوفياء للمسيح . ولعل اعظم عبرة يمكننا ان نتعلمها من القديس كيرلس بطريرك اورشليم هي انفتاح العقل في بحثه عن الحقيقة ، والتعايش المسالم مع الذين يختلف ايمانهم عن ايماننا .