المرأة الكنعانية
نقرأ واقعة المرأة الكنعانية التي انسحقت بتواضعها تحت وطأة كلام السيد وسمَت بإيمانها الى منزلة البنين. يسوع خرج الى نواحي صور وصيدا وهذا لا يعني ان يسوع بلغهما او انه تجاوز حدود الجليل، في حين ان المرأة اجتازت اليه وقد يعني هذا انها تخطّت حدود وثنيتها. هذه المرأة امية اي غير يهودية، وفي جنسيتها سورية، كما يسميها الإنجيلي مرقس (مرقس 7 : 26) إذاً هي يونانية الثقافة ووثنية العبادة. اذ ارادت شفاء ابنتها نادت قائلة "ارحمني يا رب يا ابن داود"، لكن الرب لم يجبها. نادت يسوع مستعملة لقب المسيا المخلص الذي ينتظره اليهود ولم يكن الوثنيون مؤمنين بمخلص يأتي من اليهود. تجاهلها السيد ربما ليظهر لها ان لا خلطة بين المخلص ابن داود وآلهة الكنعانيين الوثنية مثل إيل وبعل وعشتاروت في صور وصيدا.
سأله التلاميذ ان يصرفها فقال ان مهمته تنحصر في إعادة الخراف الضالة من بيت اسرائيل، وهذا لم يكن مخفيا على التلاميذ إذ عندما أُرسلوا للكرز بإقتراب ملكوت السموات اوصاهم يسوع قائلا: "الى طريق الأمم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري الى خراف بيت اسرائيل الضالة". ان فحوى مهمة المسيح
وهو في البشرة ان يتمم الوعود لإسرائيل داخل إسرائيل ويختم على النبوة "اذ لا يمكن ان يهلك نبي خارج اورشليم" (لوقا 13 : 33). فالسيد الذي ورث الأنبياء جميعا وحقق اقوالهم في جسده كان لا بد له ان يُقتل داخل كرم اسرائيل. فيحقق الفداء بالصليب والقيامة من بين الأموات وعندها يُرسل التلاميذ "ليتلمذوا جميع الأمم معمدين اياهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28 : 19). العمل في الأمم يصير بواسطة التلاميذ بقوة الروح القدس الذي حلّ في العنصرة. بالرغم من صد يسوع لها، انكبت المرأة على قدميه مستغيثة فأجابها يسوع قائلا: "ليس حسنا ان يؤحذ خبز البنين ويُلقى للكلاب... دعي البنين اولا يشبعون" (مرقس 7 : 27). بهذا الكلام أبرز يسوع الهوة بينها وبين اسرائيل اذ دعى الوثنيين بالكلاب وهو اللقب الذي كان يطلقه اليهود المتأخرون على الوثنيين بسبب عدم طهارتهم حسب الشريعة ولأنهم لا يعبدون الإله الواحد. أراد يسوع ان يذكرها بأنها تأتي من ذلك الوسط وانها تتعدى على ميراث البنين. ارتضت المرأة دونية أصلها وبادرت المسيح بإيمان عظيم مبتغية فتات النعم التي تتساقط على البنين. فبهذا الإيمان كسرت الحواجز التي أقامتها الشريعة وانسلّت الى قلب السيد حيث شريعة المحبة التي لا تنضب ابدا.في رواية متى لشفاء ابنة المرأة الكنعانية نواجه مسألة كبيرة الأهمية تتعلّق بموقع الأمم من مشروع الله الخلاصي. والحقيقة ان هذه المسألة لم يطرحها أولاً العهد الجديد، ولكن تطرَّق إليها أنبياء العهد القديم، وعلى رأسهم إشعياء. ففي رؤيا إشعياء أنّ الأمم سيتدفقون الى جبل الرب في اورشليم ليسجدوا له هناك جميعهم (2 :2-4). وثمة مواضع كثيرة في السفر نفسه تخص الأمم نذكر منها أن الدعوة لإسرائيل ستكون "نوراً للأمم" (42: 16؛ 49: 6)، وأنّ الله سيدعو كلّ أقاصي الأرض لتتوب إليه وتخلُص وتعبده وحده (45: 22-23)، وأن شريعة الله وعدله سيخرجان "نوراً للشعوب" (51 :4-5)، وأن الله سيأتي بالغرباء الى جبله المقدس ليشاركوا في السجود له هناك (56: 7)، وأن الأمم ستأتي إلى نور إسرائيل الذي هو الله (60: 2). هذا الانفتاح على الأمم نجده أيضاً عند النبي زخريا الذي يصوّر بشكل جميل صعود الأمم مع إسرائيل للسجود للرب على جبله المقدس (زخريا 13).
على هذه الخلفية كتب متى رواية شفاء يسوع لابنة الكنعانية. والمرأة الكنعانية في رواية متى نموذج للإيمان المرفق بالصلاة. هوية المرأة الكنعانية هي التي جعلت هذه الرواية مهمة بالنسبة الى الجماعة التي كتب اليها متى. ذلك أن العلاقات بين اليهود والأمم كانت شأنا حساسا للجماعة المتّاويّة. يقول يسوع للمرأة الكنعانية: "لم أُرسَل الا الى الخراف الضالة من بيت اسرائيل". الحديث بين يسوع والمرأة الكنعانية وظيفته أن يكون نموذجا او تفسيرا لقضية مهمة، وهي: كيف يكون اليهود والأمم معا في الجماعة المسيحية الواحدة. جواب الانجيلي متى هو أن هذا لا يكون الا بالايمان بيسوع مسيح الله وكلمته. هذا الايمان كما نعرف من مواضع أخرى في كتاب متى مطلوب من الأمم واليهود على السواء. يجيب يسوع المرأة الكنعانية بقوله: "يا امرأة عظيم إيمانكِ، فليكن لكِ كما أردتِ". تنال الكنعانية الخلاص بإيمانها. وكان جواب متى على المتسائلين عن موقع الأمم في عمل الله الخلاصي هو انهم ينالون الخلاص نفسه وذلك بإيمانهم بيسوع المسيح.
القضية تتخذ بعدا مهمّا اذا أخذنا بعين الاعتبار أن اليهود في انجيل متى لم يؤمنوا بيسوع، لذلك يذهب يسوع ليؤسس كنيسته من الأمم. "الخراف الضالة" التي أُرسل يسوع اليها شاءت أن تبقى ضالة، لذلك ذهب يجد له خرافا في حظائر أخرى. ليس الذهاب الى الأمم أمرا غريبا ذلك انهم، كما ذكرنا في مطلع هذا التفسير، من ضمن تصميم الله الخلاصي، او هم اذا صحّ التعبير محكّ لمصداقية هذا الخلاص. ذلك أن أنبياء العهد القديم، حين تحدثوا عن إتيان الأمم الى جبل الرب، إنما كانت نظرتهم نحو المستقبل، نحو اليوم الذي يبسط فيه الله حكمه على كل الشعوب. فاذا كان الخلاص أتى بيسوع المسيح فينبغي أن يكون الأمم مشمولين بهذا الخلاص.
بالنسبة الى متّى والمسيحيين الأوائل تحقق هذا اليوم في مجيء يسوع المسيح الى العالم. والسجود لله في جبله المقدس، فالتعبير الأفصح عليه إنما هو في الإيمان بيسوع المسيح. رواية شفاء الكنعانية محطة مهمة في إنجيل متى. فمن خلالها يوضح الإنجيلي أن نبوءات العهد القديم تحققت في يسوع المسيح، وأن اليوم الأخير، المستقبل المنتظَر، قد تم فيه.
نقلاً عن
نشرة رعيتي
الأحد 31 كانون الثاني 1993 / العدد 5
الأحد 31 كانون الثاني 1993 / العدد 5
إقرأ المزيد 15: 21-28 شفاء المرأة الكنعانية
الشبكة الأرثوذكسية العربية الأنطاكية