امضى خمسين سنة منقطعا في قلاية رهبانية ، وكان عاقدا العزم على البقاء مع الله دون ان يعود احدا من البشر . وعندما احد من الرهبان يود ان يكلمه ، كان طلبه يرفض بكل لطف ودماثة . وعندما رغب رئيس الدير بلقاء هذا الناسك العظيم ، رفض هذا الشيخ ان يستقبله . وفي مناسبات عدة ، كان المطارنة ايضا يسمعون : اعتذر على الازعاج ، الا ان الاخ برصنوفيوس لا يستطيع ان يقابلكم ، فهو منهمك بالصلوات في قلايته .
في اول ايام الاسبوع ، كان الاخ المسؤول في الدير يأتيه بثلاثة ارغفة من الخبز واناء مملوء ماء . وكانت هذه توضع داخل القلاية . وكان الراهب يشكره عليها على التو . ولما كان هذا الراهب يؤثر الصمت على الكلام ، ويتنكر لذاته ، فقد كانت تمر اربع او خمس سنوات دون ان ينطق بكلمة واحدة .
وما ان كان الخادم يبتعد عن القلاية ، حتى يعود الراهب ليواجه الحائط ويتابابع حواره مع القدير . كانت هذه المسألة تدوم بدون توقف يوما بعد يوم ، ولايعطلها ال
ا محطات قليلة حيث كان الراهب يستلقي على ارض القلاية ليأخذ لنفسه قسطا محدودا من الراحة . وبعد اسبوع ،وفي الوقت المحدد كان الاخ الخادم يعود من غرفة الطعام حاملا ثلاثة ارغفة جديدة وجرة ماء . فذهل الاخ من جديد عندما لاحظ ان الرلراهب في القلاية ، لم يستهلك نصف كمية الخبز .
لايعرف الكثير عن السنوات الاولى من حياة القديس الاب برصانوفيوس ، فهو قلما كان يتكلم عنها . ولد في مصر حوالي سنة 620 م . اهتدى الى انجيل يسوع المسيح في مطلع شبابه ، ثم سافر الى فلسطين بحثا عن دير يمارس فيه حياة الايمان بسلام .
وفي السنوات الاولى من اقامته في فلسطين راح يسترشد على شيخ جليل يعرف باسم ماركيللوس . ومن هذا المعلم العظيم تعلم العديد من عاداته التي هي جزء من نمط عيشه النسكي : الاكل قليلا ، الانكباب على عمل اليد ، والنوم لبضعة ساعات فقط كل ليلة .
وبعد ان اتقن اساسيات الحياة الرهبانية ، راح يطوف البراري ، ليعيش في القفر بالكلية . . الهبته الشمس الحارقة في وضح النهار . اما في الليل فكان يفترش الارض لينام في العراء تحت البرد الشديد . كان يقتات اعشابا برية التي تنمو في البرية في المنطقة المجاورة لغزة . عرف رؤى روحية ، وجاهد ضد الشياطين في وضح النهار .
وبعد مرور سنوات على هذا المنوال في حياة هذا الناسك ،عاد الاب برصانوفيوس الى عالم البشر . كان يلبس المسوح ، وقد اطلق لحيته . اما وجههه فقد بدا اشبه بجلد قديم بسبب تعرضه للشمس المحرقة . الا ان نفسه كانت فتية وشابة وحية ....وعندما ظهر في دير ساريدوس في غزة سر المعلم الكبير مركيللوس ان يستقبله مجددا في ديره .
ما اعقب ذلك كان نموذجا رفيعا من نكران الذات رهبانيا، فالقديس برصانوفيوس وضع الاساس للانقطاع النسكي والاماتة الروحية في السنوات الثلاثين التي تلت . في الواقع ان تكرسه للحياة الرهبانية كان قويا جدا حتى ان الامور بدا من الصعب ادراكها وفهمها .
وفي احدى المناسباتعندما قدم الى الدير شقيق القديس برصانوفيوس وطلب ان يلتقيه ليكلمه ، اجابه الراهب على طلبه برسالة خطية بعثها اليه ، يقول فيها : اخي هو يسوع ، فاذا كنت تحتقر العالم ، وتصبح راهبا ، عندها تكون اخي . .
ومن جديد تعاقبت السنوات فبدا هذا الرجل الخارق مذهلا للذين عاشوا معه في الدير . وفي حادثة مدونة ، وافق القديس برصانوفيوس ان يساعد في وضع كتاب من 850 صفحة هو بمثابة اجوبة على اسئلة تتناول الحياة الروحية ، النسك ومواضيع اخرى مشابهة . وذلك المجلد بات يعرف باسم " الاجوبة " ، وقد اصبح كتابا كلاسيكيا في الكنيسة المقدسة
ولكي يطبع القديس برصانوفيوس ، الكتاب الذي نظمه بمعونة صديقالعمر الراهب القديس يوحنا النبي ، راح يملي اجوبته على اسئلة القديس يوحنا ، على الراهب القديس الاب سريدوس ، وبأقصى سرعة . ولكن عندما احتج القديس سريدوس لكونه لايتمكن من اللحاق بهذه السرعة ، ، وان عليه ان يمسك قلما وورقة كي يدون التعليقات التي كان القديس ينطق بها ، فاجأه القديس الصري برصانوفيوس ، وادهشه ، عندما الغى الاقتراح بحجة ان الروح القدس سوف يعين الاب على تذكر كل الكلمات ، كما يجب .
اذهب ودوّنها ، قال الاب العظيم لرئيسه الخائف ، ولا تخش شيئا . . حتة ولو نطقت بكلمات كثيرة ، وطلبت منك ان تدونها ، اعلم ان الروح القدس سوف لا يدعك تدون كلمة واحدة اكثر او اقل ، مما اقوله انا لك .....حتى لو كنت تود ذلك ، بل هو سوف يرشد يدك كي تدون كل شيء كما ينبغي ، وعلى نحو لائق .
رقد العظيم بالرب القديس برصانوفيوس سنة 563 م بعد ان قام بزيارة اورشليم ، ونزل ضيفا على بطريركها بطرس . وعلى نحو مذهل ، استطاع هذا القديس العظيم ان يحدد ليس ساعة موته فحسب ، بل انه تمكن ايضا ان يؤجل رحيله بضعة ايام كي يتسنى له ان يساعد احد رؤساء الاديار كي يسوس رهبان ديره كما يجب .
تعطينا حياة القديس برضنوفيوس وصفا عظيما عن نعمة الله القدير التي تفعل في النساك المجاهدين . لقد باركت السماء القديس برصنوفيوس ، وحفظته ، فتمكن ان يحتمل كل صروف الشدائد والمحن التي صادفته في حياته .
وبدل ان يحزن ويكتئب من الصعوبات والالام ، كان دائم الفرح .
القديس يوحنا النبي :
كان القديس يوحنا النبي صديقا حميما للقديس برصانوفيوس طيلة حياة برصانوفيوس في فلسطين . وظل الاثنان على محبة عميقة ووثيقة ، لبعضهما مدى الحياة في القرن الساس للميلاد ، وفي عهد الامبراطور الكبير يوستنيانوس .
ومع صديقه الراهب برصانوفيوس ، كان يوحنا النبي موهبة عظيمة للكنيسة المقدسة سيما عندما وضع اجوبته ، في كتاب من الحكمة يصف فيه ببلاغة وفصاحة ما يترتب على من يلتزم بانجيل الرب يسوع المسيح .
وكراهب شاب عاش لوحده في بعض الاحيان في البرية عاكفا على نسك شديد ، اعطي يوحنا النبي ان يقرأ المستقبل بعمق . وحوالي سنة 525 م بدأ يصف اسرار ملكوت الله ، ويتنبأ عن المستقبل في الكنيسة المقدسة ، على الارض . كانت قراءاته دقيقة ، وتنبؤاته عظيمة حتى ان الكنيسة لقبته بحق " يوحنا النبي " .
ان سيرة هذا الناسك العظيم والنبي ، مع الاجوبة التي صاغها مع صديقه القديس برصنوفيوس ، ما تزال الى الان تعزية والهاما لكل الذين يسعون الى السلام في طاعة الله القدير ، لا في طاعة امور هذا العالم .