11 كانون الثاني
طيلة ثلاثين سنة لم يضع قطعة خبز في فمه . وبينما كان يعمل من الفجر حتى المساء ، كان يرغم نفسه للاكتفاء بالاعشاب والبلح وبعض الحبوب التي ترمى في العادة للحيوانات الداجنة . وفي بعض الوجبات كانت يكتفي بتمرة واحدة . وبعد العشاء كثيرا ما كان يعاقب نفسه فيقضي الليل واقفا غارقا في الصلاة والتأمل مع الدموع . .
وبسبب محبته لله الاب ولابنه يسوع المسيح فالقديس ثيودوسيوس مكرم جدا في كل العالم المسيحي (423 – 529 ب م ) فهو مثال للراهب المنضبط العائش لمجد الله . انه وجه للتقوى وبذل الذات في القرون الاولى من تاريخ المسيحية ، لطيف المعشر ، متواضع ويقسو على نفسه فيحرم جسده ما هو بحاجة اليه من طعام . الا ان الله في عميق حكمته كان يغذيه من المائدة الروحية طيلة 106 سنوات عاشها على الارض .
ولد في سنة 423 ب م لوالدين مسيحيين تقيين في قرية كبادوكية من اعمال موغارياسوس ( جزء من تركيا الحالية ) . ترعرع القديس ثيودوسيوس في بيت تقي ، وتعلم الاسفار الالهية منذ حداثته . هو مفكر حذق ، وخطيب مفوه . وسرعان ما اصبح قارئا في كنيسة قريته حيث لامست الكلمات الالهية قلبه ، فكان يحلم بمغادرة العالم لعبادة الله راهبا في دير .
وفي سن مبكر ، انطلق هذا التلميذ المحب للمسيح الى الاراضي المقدسة ، وكان ذلك في الايام الاخيرة من عهد الامبراطور الروماني مركيانوس ، الذي كان يقترب من نهاية عهده . وبينما كان في سفرته عبر انطاكية الى فلسطين والاماكن المقدسة ، عرّج على القديس سمعان العامودي الذي ادهشه بشدة عندما ناداه ذاك من اعلى العامود حيث كان يقيم ، وقال له : ياثيودوسيوس خادم الله ، اهلا بك . ثم راح القديس سمعان العامودي يتنبأ ان القديس ثيودوسيوس سوف يصبح في نهاية المطاف قائدا عظيما للرهبان في فلسطين .
ولما بلغ الاماكن المقدسة ، سجد وصلى في تلك المواقع ، ثم طرح على نفسه سؤالا صعبا : وهل يبدأ ثيودوسيوس خدمة الله ناسكا في البرية ، ام راهبا يعيش في دير يتعبد فيه الجميع لله ؟ وفي تفكيره بالسؤال ، وضع التأمل التالي : "اذا كان جنود الملك الارضي لا
يتجاسرون على المضي الى المعركة الا اذا سبق ان تدربوا على ايدي ضباط اكفاء في فنون القتال ، فكيف استطيع انا العديم الخبرة ان اباشر معاركة الشياطين الخبثاء غير المتجسمين ؟ لذا لا غرو من ان اجد لنفسي اباء روحيين استرشد عليهم ردحا من الزمن حتى يشتد عودي ، ومن ثم انطلق لأقيم في الصحراء . كانت هذه نصيحة شديدة الوقع ، وقد سار القديس ثيودوسيوس بموجبها . فقام وانضوى في دير في فلسطين ، على مقربة من بيت لحم ، بعد ان امضى فيها سنوات عدة مروّضا نفسه بصبر على حياة تليق بالله . ولم يمض وقت طويل ، حتى راح ابوه الروحي لونجينوس يلح عليه كي يؤسس ديرا يقوم هو نفسه بادارته في بيت لحم .
كان ثيودوسيوس خادما لله متواضعا . وفي ذلك الحين كانت هناك مجموعة من الرهبان تنضوي تحت قيادته وارشاده ، اما هو فكان يعيش في كهف رطب ، وكان يحيا عاكفا على الصلاة والتوبة . كان لهذا الكبادوكي قلب كريم ، فلم يكن بوسعه ان يرفض الرهبان الغيارى الذين كانوا يتوافدون عليه للاسترشاد والتزود بنصائحه . وفي العقود التالية من السنين قام هو نفسه بتأسيس دير كبير ، وثلاث كنائس ، لرهبانه ، وكان يعيش كرئيس على الدير ، حياة مثالية ملؤها القدوة .
وما هي الا سنوات حتى اختاره اسقف اورشليم رئيسا على جميع اديار فلسطين ، فذاع صيت قداسته في كل فلسطين . اما هو فراح من هذه المسؤولية يرشد الرهبان الى التقوى مع الطيب الذكر القديس سابا المتوحد الذي كان قد عينه الاسقف نفسه ساللوستوس مرشدا روحيا لكل نساك فلسطين .
كان القديس ثيودوسيوس صديقا للفقراء والمرضى ، فقاميطعم الجياع كل يوم ، وراح يوعز لرهبانه ان يعدوا عشرات الموائد للوجبة المسائية . وفي غير مناسبة ، وعندما كانت المؤن تشح ، حوّل بضعة خبزات الى خبز وفير على غرار ما فعله السيد يسوع المسيح عندما كثر الخبزات والسمك قبل خمسة قرون .
بيد ان الهبات العظيمة التي كان القديس ثيودوسيوس يقدمها للعالم ، لم تقتصر على تشييد كنائس ومشافي وتوجيه الرهبان الورعين في صلواتهم اليومية ، بل قام ايضا بخدمة جليلة ، قاوم من خلالها مع القديس سابا المتقدس هرطقة افتيخيس في اورشليم وفلسطين ، فنفي على الفور بسبب جهوده هذه من قبل الامبراطور البيزنطي انستاسيوس الذي كان قد اعتنق تعاليم افتيخيس . وسرعان ما عوقب الامبراطور نفسه على جحوده ، فقد ضربته صاعقة قتلته على الفور .
في نهاية حياته ، احتمل القديس ثيودوسيوس مرضا مزمنا طويل الامد ، الا انه ابى ان يصلي الى الله للشفاء منه ، انما كان يقول ان احتمال الالام ضروري للتوبة عن الخطايا الروحية . مات عن عمر كبير في شيخوخة متناهية وله من العمر 106 سنة ن في الدير الذي سبق ان اسسه هو نفسه . وغادر هذه الدنيا ن وتسبيح الله على شفتيه . .
والى اليوم ، ما يزال القديس ثيودوسيوس مثالا للتواضع والايمان في كل الكنيسة. ومن جديد فان افعاله اظهرت مقدار ايمانه العميق بالله ، وبضرورة التذكر ان كل شيء في هذه الدنيا خاضع لمشيئة الله . وفي احدى المناسبات التي يجدر ذكرها ، زرع الخوف في نفوس رهبانه عندما امرهم ان يحفروا قبرا في البستان الذي وراء الكنيسة . وعندما انتصب كل واحد منهم والمعول في يده ، ابتسم هو وسألهم : " يا اولادي ، القبر جاهز ، فمن منا سينزل اليه اولا ؟ " وفي مناسبة اخرى ، عندما شحّت المؤنة ، وراح الرهبان يتأففون من نقص المواد الغذائية ، الح هو عليهم ان يتابعوا الصلاة ، بينما راح هو يقول : " ان من اطعم اسرائيل في البرية ، وفي العهد الجديد اطعم الافا من خمس خبزات ، سوف يعتني بنا . انه الله القدير نفسه ، وسوف لا يتخلى عنا .
وما ان انتهى من عظته البليغة ، حتى قدم الى الدير مسيحي عابر سبيل ، ومعه بغلان محملان بالاطعمة مهداة الى الدير .
كان القديس ثيودوسيوس كاتبا ومفكرا ، تركا قبل رحيله عددا من العظات البليغة للرهبان . وفي احدى العظات راح ينبه الرهبان ان يحاذروا الرضا عن الذات : " استحلفكم يا اخوتي حبا بربنا يسوع المسيح الذي بذل نفسه من اجلنا ان تبذلوا انتم ايضا ذواتكم من اجل خلاصها . " ط لنتب لأننا هدرنا حياتنا الى الان ، ومن الان فلنعمل لمجد الله وابنه . ارجو ان لا نكون اغبياء الى الابد لئلا ندعى للمثول امام الديان فارغين وليس فينا فضيلة ، ومتروكين خارج خدر المسيح . اسألكم ان تصلوا طمعا بالابدية ، فنحن قد اسأنا استخدام الدهر الحاضر ، فالدموع بعد الموت لن تجدينا نفعا . " الان هو وقت مقبول . الان هو يوم خلاص . "
ويوما بعد يوم ، وسنة بعد اخرى ، تابع الراهب المتواضع ثيودوسيوس ثقته العميقة بالرب . وعندما اجتاحت فلسطين موجة من الجراد ، في فصل الصيف ، طلب من القديس ثيودوسيوس ، ان يمد يد العون . كان في ذلك الحين شيخا طاعنا في السن ، الا انه نهض وانطلق الى الحقول وهو يتوكأ عصاه ، وراح يجيل نظره في امواج الجراد التي غطت كل شيء ، الا انه لم يتردد لحظة ، بل على التو رفع رأسه وصرخ في الحشرات قائلا : " ربنا يسوع المسيح لايسمح لك ان تتلفي طعام الفقراء !وماهي الا لحظات حتى توارت سحابة الجراد عن الانظار وابيدت جميع الحشرات .
القديس ثيودوسيوس انسان عميق الايمان ، وراهب كلي الطاعة وواحد من اكثر المفكرين الملهمين في كل تاريخ الكنيسة المقدسة . سيرته دليل امين ودقيق لكل واحد منا نحن الذين نجاهد كي نحيا بمقتضى انجيل يسوع المسيح . ولأنه اطاع بعمق وبجهوزية مع فرح ، فنحن نستطيع ان نسمع بأكثر وضوح من ذي قبل تلك الكلمات المدوية والمظفرة من الصلاة الربية : " ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك . "
وككثيرين من الرهبان في زمانه ، كرس القديس ثيودوسيوس كل حياته للصلاة وللتعلم ، فضلا عن التتلمذ على الفضيلة . همه الوحيد كان ان يحيا قيم الانجيل ، وبقدوته ان يقود الاخرين الى المحبة الالهية نفسها .ونحن لا يطلب منا ان نحذو حذو اولئك الاباء في زمانهم ، بل علينا ان نقتدي بالقول : " لا لأنفسنا " ، فنجعل ذواتنا وحياتنا انشودة دائمة من التسبيح لله القدير .
طروبارية باللحن الثامن :
"للبرية غير المثمرة بمجاري دموعك امرعت ، وبالتنهدات التي من الاعماق اثمرت بأتعابك الى مئة ضعف . فصرت كوكبا للمسكونة متلألئا بالعجائب ، ياابانا البار ثيودوسيوس ، فتشفع الى المسيح الاله ان يخلص نفوسنا . "
قنداق باللحن الثامن :
"لما غرست في ديار ربك ، ازهرت ببهاء فضائلك الباهرة ، وكثرت اولادك في البرية ، وبأمطار عبراتك روّيتهم يارئيس قطعان حظائر الله الالهية ، لذلك نصرخ اليك هاتفين : السلام عليك ايها الاب ثيودوسيوس . "