20كانون الثاني
عندما شاخ ، وراح يعد نفسه للموت ، تحلق حوله اخوته الرهبان وراحوا يتكلمون بأصوات خافتة وحزينة ، فقد عاشوا سنين طويلة يسترشدون عليه في الدير . وبعد ذلك سألوه جميعا ان يقول لهم كلمة ارشاد فقد ارادوا قدر الامكان ان يتعلموا من شيخهم ابن ال 96 سنة قبل ان ترحل نفسه عن الارض الى الابد ، فرجوه قائلين : " ايها الاب الحكيم ، نتوسل اليك ان تخبرنا كيف ينبغي ان نعيش . ارشدنا ايها الاب القديس . ما الذي يجب ان نتذكر ه قبل كل شيء ؟ ماذا علينا ان نفعل ان كنا نود ان نتمم واجباتنا المقدسة كرهبان كرسوا ذواتهم لعبادة الله القدير ؟
ومن فراش الموت اجاب القديس افثيميوس احد اكثر الرهبان قداسة ، وحكمة في كل تاريخ الكنيسة المقدسة ، وقال : " كل فضيلة تصان بالمحبة والتواضع . الرب نفسه اتضع ، وبسبب محبته لنا صار انسانا . لذا علينا ان نسبحه على الدوام نحن الرهبان الذين تركنا العالم وكل اهتمامات الدنيا ومغرياتها . " انظروا الى انفسكم ، وحافظوا على نقاوة اجسادكم . لا تتوانوا عن الصلوات في الكنيسة . حافظوا على تقليدات الشركة الرهبانية وقوانينها . اذا جاهد احد الاخوة ضد الافكار الدنسة ، اصلحوه ، عزوه ، ووجهوه كي لا يسقط في فخاخ ابليس . لا ترفضوا ضيافة الغرباء . وقدموا ما تستطيعون لمساعدة المساكين في بؤسهم .
ولد القديس افثيميوس في مدينة ميليتين الارمنية الواقعة بجوار نهر الفرات . عاش وهو يتبع يتبع النصيحة التي كان يسديها لرهبانه يوم رقاده . هو ابن لوالديين تقيين وفاضلين : بولس وديونيسيا . هذا الراهب المتنكر لذاته لم يكن يعيش على مستوى الخطوط الروحية التي كان يوصي بها رهبانه ، بل كان هو نفسه مجاهدا عظيما ضد الهرطقات الخطيرة ، ومدافعا عن التعاليم المقدسة التي ارست اساس السلطة الروحية في كنيسته المقدسة والمحبوبة .
ولأن امه كانت عاقرا قبل ولادته ، صلت الى الله بحرارة كي يعينها ويهبها ابنا . وبعد ذلك ، ياللعجب العجاب ، فقد شاهدت هذه الام رؤيا منحها فيها الله ابنا سمته على التو افثيميوس ، واسمه يعني " البهجة العظمى " . اما بالنسبة لديونيسيا التي تخشى الله ، فان قدوم هذه العطية ، من شأنه ان يكون لها مصدر بهجة دائمة .
وكشاب ، درس افثيميوس الاسفار الالهية ، وكان يصلي على الدوام بتوجيهات الاسقف الارميني افترويوس . وحلم يوما انه يود ان يزور الاماكن المقدسة ، وان يترهب ، لابل ان يتنسك ويعيش منقطعا . وبدأت امنيته تتحقق في اليوم المجيد عندما قام بزيارة اورشليم في سن التاسعة والعشرين ، فوجد نفسه سعيدا مسرورا بالجمال الحسي والروحي الذي تنعم به الاراضي المقدسة .
وفي غضون شهور ، استقر هذا الانسان التائق الى الله على حياة قوامها النسك والصلاة في اللافرا الكبير الواقع بجوار فران ، على الطريق الذي يربط بين اورشليم واريحا . وهناك ، سرعان ما بدا يتقدم في التقوى والتواضع العميق الذي كان من شأنه ان حدد معالم حياته كراهب . وبينما كان في فران ، كان يشارك القديس ثيوكتيتستس نظام حياته احيانا ، وبدأ يعد نفسه للجهاد الكبير اعني بذلك الحياة القائمة على التأمل .
لم يمض وقت طويل حتى توافد عليه كثيرون للتلمذ عليه ن ومنهم القديس كرياكوس الناسك ، القديس سابا المتقدس ، والمعلم الروحي الجليل القديس ثيوكتيستس . وعنما فضّت السنون الواحدة تلو الاخرى ، بدأت شهرته تطبق الافاق في فلسطين والشرق الاوسط كصانع عجائب ، فكان يشفي الامراض ويكثر الخبز للجياع .
لم يكن افثيميوس ليخشى الشياطين التي كانت تطوف البرية ، فكان بارعا في طردها ، وقد اعتق كثيرين من اذاها معلنا قوة الله القدير الشافية والمحبة . ومن جديد كان يطرد الارواح النجسة من الخطأة فيتحررون ويعبدون الله بشكر وتواضع .
كان رجل عدل وتمييز في كل ما يفعل . وكان ينبه الرهبان في عهدته بضرورة القيام بالاعمال اليدوية كل يوم ، وخدمة الله يسوع المسيح ، وكان يطلع من يود ان يسمع فيقول له : " اذا تناولت خبزا ليس من عمل يديك ، اعلم انك تأكل من تعب انسان اخر . "
كان القديس افثيميوس رجل تواضع عميق حتى انه كان يوصي رهبانه على الدوام ان يتناولوا طعامهم مع الاخوة على المائدة المشتركة كي يتجنبوا مخاطر الكبرياء في الصوم . كذلك كان يوصي الذين يسترشدون عليه ان يظلوا رهبانا اينما حلوا في القلالي ، لا ان يطوفوا البراري يستعرضون التقوى والتأمل . كان متواضعا جدا ، حتى ان نصائحه للرهبان الصغار هي نفسها : " الشجرة التي يعاد غرسها على الدوام ، لا تثمر ، ومن اراد ان يعمل الخير ، يمكنه ان يفعل ذلك حيثما يقيم . وهو نفسه عاش بمقتضى الكلام ، فكان يقيم لشهور في مفارة منفردة على مقربة من الدير ، واصبحت في النهاية ديرا كبيرا يقيم فيه كثيرون من الرهبان الذين كانوا يقتدون به وبمثاله .
وعندما رقد بالرقد عن عمر 96 سنة توجه بطريرك اورشليم نفسه الى حيث كان مسجى كي يصلي على بقاياه راجيا دخوله السريع الى الاخدار السماوية . كانت الحشود التي توافدت لوداع هذا القائد العظيم كبيرة جدا حتى ان البطريرك لم يستطع ان ينهي رثاءه الا عندما حل الظلام . وبينما اجتمع رجال قديسون من كل انحاء الشرق الاوسط كي يلمسوا رفاته ويتبركوا به ، كان رهبانه ينوحون بدون خجل . بدأت صلاة تجنيز هذا الرجل العظيم بموجة من الحزن العارم .
ترك هذا القديس المحب لله العالم الا انه لم يفارق اخوته في المسيح . وبعد رقاده باسبوع ظهرت روحه في الدير لصديقه المحبوب والراهب معه الشاب دومنتيان الذي كان قد اسدى اليه الكثير من النصح وعزاه . وصفه كثيرون من اتباعه ب " ابن النور "، وراحوا يكرمون ذكراه في العشرين من كانون الثالني من كل عام . رحل القديس افثيميوس كي يكون مع الله ، حوالي سنة 473 م . وبين المعجزات الكثيرة التي اجترحها فجعلته شخصية اسطورية في الكنيسة ، شفاؤه لطفل مريض ابوه هو العظيم الذكر القديس اسبيبتوس الذي كان حاكما على قبيلة عظيمة من البدو الرحل . فعندما رأى هذا الرجل الزعيم ان ان قديس فران قد شفا له ابنه ، للحال اهتدى الى الايمان بيسوع المسيح ، وامر كل اعضاء عشيرته ان يحذوا حذوه . وبعد ان اتخذ اسم القديس بطرس ، توج اهتداءه بأن صار اسقفا حكيما عرف في كل الشرق ، بأسقف الخيام .
لقد اصبحت هذه المعجزات ممكنة بنعمة الله وكان لها دور عظيم في هداية كثيرين من الذين عاينوها . الا ان الراهب القديس افثيميوس اسدى للكنيسة المقدسة خدمة جليلة بالغة الاهمية عندما قاوم ثلاث هرطقات مختلفة هددت تعاليم الكنيسة الاساسية .
وفي بعض الاوقات ، وفي حياته الطاهرة ، الطويلة ، كان ساكن الكهوف ومعلم الرهبان يجازف بموقعه الاجتماعي عندما يقاوم الاخطاء اللاهوتية التي كان يعرضها النساطرة ، الافتيخيون ، والمانويون .
والاكثر قيمة من كل شيء ، هي العطية العظيمة التي قدمها من خلال تعاليمه وعبر سنوات طوال للرهبان في تصويب سبيل حياتهم على نحو لائق . ومن بين تلاميذه العظام الراهب القديس ومعلم نساك البرية سابا المتقدس الذي لم يكف يوما عن امتداح حكمة صديقه الراهب والاب الجليل افثيميوس .
احبه جميع رهبان فلسطين لحكمته العميقة . وكان هو يصف مهمة المتأمل الديني على انها جهد مستمر للعيش بحسب مشيئة الله كما قال هو نفسه :
"اعلم ان من يرغب ان يعيش راهبا ، عليه ان يقطع مشيئته ، وان يعيش على الدوام تواضع وطاعة ، وان يضع نصب عينيه ذكر الموت ، ويخشى الدينونة العتيدة ، والنار الابدية ، وان يتوق الى ملكوت السموات . "
ولأنه كان عميق الايمان ، فقد كوفىء بمعجزات باهرة عظيمة هي من فيض محبة الله . وفي احدى المناسبات التي تصف حياته ، وصل الى المكان 400 زائر على نحو غير متوقع كانوا في طريقهم الى الاماكن المقدسة ، وكانوا جياعا ، وقد خاب املهم عندما علموا ان الرهبان ليس عندهم الا القليل من الطعام . وكان هؤلاء المسافرون قد بلغوا حالة شديدة من الجوع والاعياء . هل يذهبون جياعافي تلك الليلة الباردة والممطرة .,.؟
كلا . تحرك الاب القديس ونادى احد رهبانه واوصاه ان يطعم الزوار على الفور .
وعندما احتج الراهب بحجة ان مخزن الدير فارغ وليس فيه طعام حتى لعشرة رجال ، فكيف اذا كانوا 400 رجلا . فطلب الاب القديس من الراهب ان يذهب الى المطبخ كي ينظر عن كثب ، فما كان منه الا ان اطاع وقام الى هناك فوجد كميات كبيرة من الخبز والخمر والزيت وقد ملأت الغرفة من الارض حتى السقف . وما اعقب ذلك ، كان عيدا بهيا امتدح فيه الرهبان وزوارهم محبة الله مع كل قضمة ولقمة .
وبعد ان شبع الحاضرون ، فضل من الطعام في المخزن ما يكفي لحاجة الدير لمدة ثلاثة شهور ، والفضل في كل شيء هو لعظمة القدير الذي ارسله . . فصلى القديس افثيميوس بحرارة وشكر الله على هذه المعجزة التي حصلت في ذلك اليوم بين الاخوة .
ان هذا الحدث المعجز يمكنه ان ينطق بالكثير عن عظمة عطايا الله ن واعني بذلك سيرة القديس افثيميوس الكبير . كان ايمانه عظيما ، ولسخائه وكرمه ، فقد ساعد عالم الكنيسة المقدسة وكل من امن بها طيلة ستة عشر قرنا تقريبا . والى اليوم ، فان كلماته التي تنم عن محبة وحكمة لكل الذين يودون ان يسبحوا الله القدير ماتزال تصدح بحكمة الدهور .
طروبارية باللحن الرابع :
"افرحي ايتها البرية التي لم تلد ، اطربي يامن لم تمارس طلقا لأن رجل رغائب الروح قد كثر اولادك ، اذ قد غرسهم بحسن العبادة ، وعالهم بالامساك لكمال الفضائل . فبتوسلاته ايها المسيح الاله خلص نفوسنا ."
قنداق باللحن الثامن :
" ان الخليقة قد وجدت فرحا في مولدك الموقر وفي تذكارك الالهي يا ايها البار ، اتخذت ابتهاجا بعجائبك الكثيرة . فامنح منها نفوسنا بغزارة ، وطهرنا من دنس الاخطايا حتى نرتل هليلويا . "