الكنيسة الأرثوذكسية والإجهاض
ترفض الكنيسة الأرثوذكسية الإجهاض، وثمة قوانين كنسيّة عديدة وضعها الآباء أفراداً أو في المجامع تدينه، ومنها القانون 91 من مجمع تروللو (692) الذي يقرر:" إن النساء اللواتي يعطين عقاقير لإسقاط الجنين واللواتي يأخذن السموم لقتل الجنين يقعن تحت قصاص القتلة ". والقديس باسيليوس الكبير (+ 379) يوصي في القانون الثاني من مجموعة قوانينه:" ليفرض على المرأة التي تقوم بعملية إجهاض مدة 10 سنوات في التوبة سواء أكان الجنين تام التكوين أولم يكن".
لا يوجد في الكتاب المقدّس نصوص مباشرة عن تحريم الإجهاض المتعمّد. ولقد اعتمد البعض إلى هذا الموقف الصامت، فروّجوا تعاليم مستهجنة تدعو إلى السماح به وتشريعه، إلا أن قراءة النص الكتابي على هذا النحو تبقى مبتورة إذا لم تأخذ في عين الاعتبار مجمل مضمون الكتاب المقدس، لا سيما الوصية الخامسة " لا تقتل"، التي تؤكد أهمية الحفاظ على حياة كل إنسان، وخصوصا كائن أعزل لا يستطيع الذود عن نفسه، نعني به الجنين.
إن حياة الكائن البشري تبدأ من لحظة الحبل به، فالكتاب المقدس لا يفصل بين الروح والجسد. والآباء لم يقبلوا القول بأن الكلمة كان قبل ولادته جسما هامداً لا حياة فيه. أما الكنيسة فتعيّد للحبل بمريم والدة الإله وبيوحنا المعمدان. أما العلم فيؤكد أن نمو الجنين يبدأ من لحظة اتحاد المورِّث (الكروموزوم) الذكري بالبُويضة الأنثوية. لذلك، ليس الجنين كتلة لحم من دون روح يستطيع أبواه أو أحد أبويه التصرف بمصيره، بل هو كيان آخر مستقل لا يخص أباه أو أمه بل يخص الله. ومن ثم يكون الإجهاض بمثابة قتل كائن بشري، أَنِِطفَة كان أم جنينا، أإبن ساعة أو أكثر. الجنين أمانة من الله في يد أبويه لا يجوز التفريط بها.
ليس الجنين، في مفهوم الكتاب المقّدس كتلةً من لحم ودم وشحم، بل هو يأخذ منذ تكوينه في أحشاء أمه صورة الله، يقول الربّ للنبي إرميا: "قبل أن أُصوّركَ في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبيا للأمم" (1: 4). وفي السياق عينه يقول مرنّم المزمور 138: "رأتني عيناك جنينا، وفي سِفرك كُتبتْ جميع الأكوان وصُوّرت ْ أيامها قبل أن يكون منها شيء" (الآية 16). ويخبرنا الرسول لوقا الإنجيلي أن يوحنا المعمدان، جنينا، إرتكض في بطن أمه عندما رأت مريمَ الحامل المسيح. إن الجنين الذي يتم قتله ليس له وجه ولا شكل إنساني، هو مجهول وأعزل ولكنه يرمز إلى إلهنا الذي "اتخذ صورة عبد" (وفي اليونانية "الذي لا يُرى"). إنه جدير بأن يوجد ويحيا وينمو إلى ملء قامة المسيح.
لا شك أن مسؤولية إجهاض أي جنين إنما تقع على أبويه، أو على البيئة المحيطة بهما، أو على الجهاز الطب الذي يمارسه مطوّعا للموت الكفاءات التي أحرزها لدعم الحياة. كما تقع المسؤولية على الذين شرّعوه وسنّوا القوانين التي تبيحه. ولا يجب نسيان المجتمع، الذي بدلا من وضع سياسات تدعم العائلات التي تدفعها الحاجات الاقتصادية إلى ممارسة الإجهاض، نراه يرضى به عبر الاستفتاءات الديمقراطية والحملات الإعلامية الداعية إلى تبنّيه. فكل تبرير للإجهاض، حتى في الساعات الأولى للجنين، هو جريمة. ذلك أن الحياة تبدأ منذ اللحظة الأولى للتلقيح، ولا يمكن اعتبار هذا الجنين كائنا بشريا إذا لم يُحسب كذلك منذ الدقيقة الأولى.
ثمّة مشكلة أخرى ناتجة من التشخيص السابق للولادة (échographie)، فهذه الوسيلة الجديدة في عالم الطب لها فوائد كثيرة في مراقبة الجنين وتطوّره. غير أنها قد تنحرف عن هدفها الأصلي وتُستخدم لأغراض انتقائية، فيُقضى على الكثير من الأجنّة المصابة بعاهات جسدية أو عقلية، وذلك من منظار أناني وحسب. ويتذرّع البعض بأن الحفاظ على حياة هؤلاء قد يزيد تعقيد الحياة، فينبغي، رأفة بالأهل وبهم، التخلّص منهم.كما يتذرع البعض الآخر بالقول إن هذا المخلوق سوف يكلف الأهل والمؤسسات مصاريف باهظة. ولكنهم ينسون أن الحياة لا تقاس بالمال والبنية السليمة فقط، بل بالبعد الروحي الكامن في كل إنسان، إذ لا يستطيع أحد سبر روحية المعاق إلا الله وحده. والحياة الإنسانية صحيحة كانت أم مشوّهة تبقى على صورة الله ومثاله، ولا يحق لأحد وضع حدّ لها. ما من عاهة تختصر الإنسان، بل هو ينتظر محبتنا ورعايتنا. أو ليس وجودنا مع أشخاص كهؤلاء هو مصدر شهادة وتقديس لنا أيضا؟ أليس الأجدر بالمجتمع أن يدعم العائلات التي تقبل وجود معوقين فيها بدلاً من تشجيعها على قتلهم؟
في القرن الثاني للمسيحية اكتفى الآباء الدفاعيّون بالقول للوثنيين إن النساء المسيحيات لا يمارسن الإجهاض ولا يتركن الأطفال الذين يلدنهم. بالنسبة إليهم كانت هذه شهادة للمسيحية ودعوة للاهتداء إليها. لا شك أن التشريع يبقى دون متطلّبات الإنجيل والحياة المسيحية. التطويبات لا تتحقق من خلال القانون بل من خلال تقديم المثال الصالح. يعني هذا أنّ الإجهاض يبقى في نظر الله قتلا لكائن أعزل، ولو حلّلته قوانين الناس.
نقلاً عن: نشرة رعيتي
أبرشية جبيل والبترون
الأحد 18 تموز 1999
العدد 29