من يقرأ رسائل بولس لا يجد تعليماً منظّماً عن "المسيحيّ"، ولكنّه يستطيع تنظيم حياته كلّها انطلاقاً من كلماته المنثورة القادرة على تجديده وتقديسه، وذلك إذا قرأ وفهم وأحبّ وأطاع. وهذا سنتبيّنه في تعليم بولس عن علاقة المسيحيّ بالله المثلّث الأقانيم.
مبدأ التجدّد هو الإيمان بالمسيح يسوع الذي قام من بين الأموات ووهب العالم حياة أبديّة. فالمسيح، بموته وقيامته، يخلق "إنساناً جديداً" (أفسس 2: 15). وهذه الجدّة ممكنة دائماً على قدر ما يندمج المؤمن في المسيح، ويرى فيه - وحده - وجوده ومصيره. وهذا يعني أنّ دعوة المسيحيّ أن يقتدي دائماً بالمسيح ويتخلّق بأخلاقه (فيلبي 2: 5)، ويسير فيه (أفسس 5: 1)، وأن يصبح، بنعمته، على مثال صورته (رومية 8: 29؛ 1 كورنثوس 15: 49؛ فيلبي 3: 21).
ما من شكّ في أنّ هذا التجدّد يصير أولاً بالمشاركة في أسرار الكنيسة وحياتها ونشاطاتها، غير أنّه يفترض، تالياً، إخلاصاً دائماً، أي أن يرفض المسيحيّ الخطايا التي تريد أن تفصله عن إلهه وتشوّهه وتعيده الى العتاقة. فمن ذاق قوّة المسيح وغلبته في شركة الكنيسة دعوته أن يبقى مخلصاً وأن يردّد مع بولس: "نحمل في أجسادنا كلّ حين موت المسيح لتظهر في أجسادنا حياة المسيح أيضاً..." (2 كورنثوس 4: 10و11). ذلك أنّ الله يريد الإنسان "إلهيا" في حياته كلّها. واذا قلنا حياته فنقصد، بالضبط، كلّ ما يفكّر فيه ويعمله ويواجهه في هذا الوجود.
فالمؤمن لا يختبر حضور الله المحيي في لقاء الكنيسة وما اليها فحسب، ولكنّه أيضاً
يرتضيه سيّداً على حياته كلّها. المسيحيّ لا يزيد الله على حياته، بل إنّما يرى فيه، وحده، حياته. فالله منطلقه وهدفه، ومنه يأتي واليه يعود في كلّ أحواله. وهذا، باختصار، يعني أنّ الالتزام الصحيح يستوجب خلع "أعمال الظلام" ولبس "سلاح النّور". يقول بولس: "البسوا الربّ يسوع المسيح، ولا تُشغَلوا بالجسد لقضاء شهواته" (رومية 13: 14). من لبس المسيح في معموديّته (غلاطية 3: 27) يصبح واحداً معه. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس، بقوله: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ. واذا كنتُ الآن أحيا حياة بشريّة، فإنّي أحياها في الإيمان بابن الله الذي أحبّني وجاد بنفسه من أجلي" (غلاطية 2 :20؛ وأيضاً: فيلبي 1: 21).
يرتضيه سيّداً على حياته كلّها. المسيحيّ لا يزيد الله على حياته، بل إنّما يرى فيه، وحده، حياته. فالله منطلقه وهدفه، ومنه يأتي واليه يعود في كلّ أحواله. وهذا، باختصار، يعني أنّ الالتزام الصحيح يستوجب خلع "أعمال الظلام" ولبس "سلاح النّور". يقول بولس: "البسوا الربّ يسوع المسيح، ولا تُشغَلوا بالجسد لقضاء شهواته" (رومية 13: 14). من لبس المسيح في معموديّته (غلاطية 3: 27) يصبح واحداً معه. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس، بقوله: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ. واذا كنتُ الآن أحيا حياة بشريّة، فإنّي أحياها في الإيمان بابن الله الذي أحبّني وجاد بنفسه من أجلي" (غلاطية 2 :20؛ وأيضاً: فيلبي 1: 21).
يوطّد الروح القدس علاقة المؤمن بالمسيح، ويعطيه أن يؤمن به ربّاً ومخلّصاً (1 كورنثوس 12: 3). كما أنّ الروح نفسه يساعده في حياته وخياراته. وهذا يعني أنّ روح الله يمكّن المؤمنين من أن يجلسوا في مقامات الشكر، وهو، تالياً، يساعدهم على أن يكونوا مخلصين في حياتهم في تفصيلها وتفاصيلها. فمن كان للروح يشتهي ما للروح في حياته. ما من شكّ في أنّ روح الله يضيء حياة المؤمن كلّها ليقدّسه، ولكنّه يريده أيضاً أن يساهم هو، أي المؤمن، في خيار القداسة. العلاقة مع الله ليست "سِحريّة" (أو من جانب واحد) ولكنّها مشاركة. أن نرتضي ما يريده روح الله يعني أن نقبل، أحراراً، خلاصه، وأن نتّكل عليه ونثق به في كل شيء (2 كورنثوس 1: 9؛ أفسس 3: 12).
الإيمان تسليم. أي إنّه قبول لله حرّ وثقة كاملة به واعتباره حصناً ودرعاً لمواجهة كلّ عيب وكلّ ما يدعونا الى التراجع والعودة الى عتاقتنا، أي الى العبوديّة. وهذا عينه ما يقوله الرسول: "إنّ المسيح قد حرّرنا تحريراً. فاثبتوا إذاً ولا تَدَعوا أحداً يعود بكم الى نير العبوديّة" (غلاطية 5 :1). وهذه الحرّيّة هي الموهبة التي يهبها الروح لأحبّاء المسيح، وهي التي يضمنها المسيحيّ بمزاولة قراءة كلمة الله وتطبيقها في حياته اليوميّة وبالصلاة الدائمة التي يقودها روح الله نفسه. فلا يمكننا أن نحيا في العالم بحسب الجسد وندّعي أنّنا أبناء الروح، "لأنكم اذا حييتم حياة الجسد تموتون" (رومية 8: 12و13).
ولا يمكننا، تالياً، أن نجاهد بقوّتنا الشخصيّة، ولكن بالله الذي يقوّينا. ولذلك يأمرنا بولس بقوله: "تقوّوا في الربّ وفي قدرته العزيزة. تسلّحوا بسلاح الله لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس... فخذوا سلاح الله لتستطيعوا أن تقاوموا في يوم الشرّ وتظلّوا قائمين وقد تغلّبتم على كلّ شيء... واحملوا ترس الإيمان في كلّ حال... واتّخذوا لكم خوذة الخلاص وسيف الروح، أي كلمة الله. أقيموا كلّ وقت أنواع الصلاة والدعاء في الروح، ولذلك تنبّهوا وأحيوا الليل مواظبين على الدعاء لجميع القدّيسين..." (أفسس 6 :10-20).
ثم يؤمن المسيحيّ بأنّ الله الآب هو البدء والمنتهى. صحيح أنّه لا يستطيع أحد أن يعرف الآب إلاّ بالابن في الروح القدس. ولكنّ هذا المعتقد يوضح نفسه بنفسه، بمعنى أنّ الإله الكلمة إنّما جاء من أجل أن يعيدنا الى الله أبيه، وقد أُعطينا الروح لنعرف "الطريق".فالمسيحيّة، في جوهرها، عودة الى الله الآب، وأن نعرف أنّنا أبناؤه. هذا ما عرفه الرسول بولس وجاهد في سبيل نقله الى العالم. ولذلك يحثّنا، بإصرار، على أن نقتدي بالله "شأنَ أبناء أحباء" (أفسس 5 :1). فالله تبنّانا بيسوع المسيح، وهذه البنوّة تظهر فينا بفضل نعمة الروح القدس الذي يسكننا (رومية 8: 14؛ غلاطية 4: 6).
إنّ حياة المسيحيّين ليست لأنفسهم، ولكنّها تمجيد لله الآب. "ومهما يكن لكم من قول أو فعل، فليكن باسم الربّ يسوع تشكرون به الله الآب" (كولوسي 3: 17؛ أنظر أيضاً: 1 كورنثوس 6: 12). وكما أنّ الله الآب هو مصدر حياة المسيحيّين، فهو أيضاً هدفها. وهذا ما سوف يظهر كلّيّاً في اليوم الأخير حيث سيكون "الله (الآب) كلّ شيء في كلّ شيء" (1 كورنثوس 15: 28). وهذا ما ينعكس في الخدمة الإلهيّة (القداس). فالكنيسة المجتمعة التي يقودها المسيح تستبق، في لقائها الفريد، ما ترجوه في اليوم الأخير، وهو أن تقف أمام الله الآب "حين يسلّم (المسيح) الملك الى الله الآب بعد أن يكون قد أباد كلّ رئاسة وسلطان وقوّة"، وتعبده بفرح دائم.
هذا بعض ما خلّفه بولس ودعانا جميعاً الى فهمه وتطبيقه في حياتنا لنستحقّ أن نكون أبناء الله، وتقع علينا، في المنتهى، بركات الآب.
نقلاً عن نشرة رعيتي
2 الأحد 13 كانون الثاني 2002 / العدد