Wednesday, June 16, 2010

هل الأرثوذكسية دين؟
الأب يوحنا رومانيدس
 نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كثيرون هم أصحاب الرأي القائل بأنّ الأرثوذكسية هي واحدة من بين أديان كثيرة وأن اهتمامها الأول هو بتهيئة أعضاء الكنيسة للحياة بعد الموت، مؤمِّنَة مكاناً في الفردوس لكل أرثوذكسي.
مسلّمٌ أن العقيدة الأرثوذكسية تقدّم بعض الضمان الإضافي لأنّها أرثوذكسية، وعدم الإيمان بالعقيدة الأرثوذكسية يراه البعض سبباً للذهاب إلى الجحيم
يُضاف إلى الخطايا الشخصية التي بحد ذاتها تقود إلى هناك. هؤلاء الأرثوذكس الذين يؤمنون بأن هذا هو وصف الأرثوذكسية قد ربطوها حصراً بالحياة بعد الموت. لكن هؤلاء لا يحققون الكثير في هذه الحياة. فهم ينتظرون الموت ليس إلا، مؤمنين بأنهم ذاهبون إلى الملكوت لأنهم، ببساطة، كانوا أرثوذكسيين في حياتهم. قسم آخر من الأرثوذكس الملتزمين والناشطين في الكنيسة، مهتمون لا بالحياة الآتية، بل بشكل أساسي بهذه الحياة هنا والآن. 
ما يهمهم هو كيف تساعدهم الأرثوذكسية على عيش حياة جيدة في الحاضر. هؤلاء الأرثوذكس يصلّون إلى الله، يطلبون صلوات الكهنة لهم ولمباركة منازلهم بالماء المقدس، ليقيموا التضرعات ويدهنوهم بالزيت، وغيرها من مثل هذه الممارسات، وكل هذا ليساعدهم الله ليتمتّعوا بالحياة حاضراً: حتى لا يمرضوا، حتى يجد أبناؤهم موقعهم في المجتمع، حتى يتأمّن لبناتهم مهراً جيداً وعريساً خيّراً، حتى يجد أبناؤهم بنات ملائمات ليتزوجوا، حتى يسير عملهم حسناً، حتى تنجح أعمالهم، وحتّى تسير التجارة حسناً، أو الصناعة التي يتعاملون بها، وغيرها. إذاً، نجد أن هؤلاء المسيحيين ليسوا مختلفين كثيراً عن غيرهم من الناس المنتمين إلى أديان أخرى ويعملون الأعمال نفسها. يمكننا أن نرى بوضوح، استناداً إلى ما ذكرنا، أن الأرثوذكسية تشترك مع الأديان الأخرى بنقطتين. الأولى، إنها تهيئ الؤمنين للحياة بعد الموت، حتى يذهبوا إلى الملكوت، كيفما تصوّروا ذلك. الثانية، الأرثوذكسية تحميهم في هذه الحياة حتى لا يختبروا الحزن، الصعوبات، الكوارث، المرض، الحرب، وما شابهها من الأمور. بتعبير آخر، حتى يهتمّ الله بكل احتياجاتهم ورغباتهم. إذاً، بالنسبة لهذا النوع الثاني من الأرثوذكس، يلعب الدين دوراً جوهرياً في الحياة الحاضرة بشكل يومي. لكن هل بين كل هؤلاء المسيحيين الذين وصفنا، مَن يهتمّ في أعماقه بوجود الله أو عدمه؟ مَن يتوق فعلياً ويسعى إليه؟ السؤال حول وجود الله غير مطروح، إذ من الواضح أن الأفضل لله هو أن يكون موجوداً، حتى نستغيث به ونطلب منه سدّ حاجاتنا، لكي يسير عملنا حسناً ونكون سعداء نوعاً ما في هذه الحياة.
كما يمكننا أن نرى، لدى الكائنات البشرية قابلية قوية لأن يكون الله موجوداً وليؤمنوا بوجوده، لأن عندنا حاجة لأن يكون موجوداً فيتأمّن كل ما ذكرنا. بما أننا نحتاج أن يكون الله موجوداً، لذلك الله موجود. لو لم يكن الناس بحاجة لله ولو كان بمقدورهم تدبّر حاجيات حياتهم من خلال وسائل أخرى، فمَن يعلم ما هو عدد الذين يبقون على الإيمان بالله. هذا هو الواقع اليوم (ملاحظة: يضيف النص الأصلي عبارة "في اليونان" لكن أسقطناها لأن هذا الواقع ينطبق في كل العالم [المترجم]). نرى كثيرين ممن كانوا سابقاً غير مبالين بالدين يصيرون متدينين في أواخر حياتهم، ربّما بعد بعض الأحداث التي ترعبهم. هذا يصير لأنهم يحسّون بأنّهم لا يستطيعون العيش من بعد من دون اللجوء إلى إله ما للمساعدة، أي إن هذا التحول هو نتيجة الاعتقادات الخرافية. لهذه الأسباب، تشجّع الطبيعة البشرية الإنسانَ على أن يكون متديناً. هذا يصحّ ليس فقط على الأرثوذكس، بل أيضاً على كل المتدينين. الطبيعة البشرية هي نفسها في كل مكان. كنتيجة لسقوط الإنسان، نرى النفس البشرية مظلمة الآن، والبشر بطبيعتهم ميّالون نحو الخرافة. الآن، السؤال التالي هو: أين تتوقّف الخرافة ويبدأ الإيمان الحقيقي؟ نظرات الآباء وتعاليمهم حول هذه الأمور واضحة.
تصوروا إنساناً يتبع أو يظنّ أنّه يتبع تعاليم المسيح، لمجرد أنه يقصد الكنيسة كل أحد، ويتناول بشكل دوري، ويباركه الكاهن بالماء، يمسحه بالزيت وغيرها من هذه الأمور، من دون تفحّصها بشكل دقيق. أيربح أيّ شيء من الأرثوذكسية هذا الذي يبقى عند الحرف من الناموس، لكنه لا يلِج إلى روحه؟ الآن تصوروا إنساناً يصلّي حصرياً للحياة الآتية، لنفسه وللآخرين، لكنّه غير مبالٍ بالكلية بهذه الحياة. أيضاً، ما هو النفع الذي يكسبه هذا الإنسان من الأرثوذكسية؟ الميل الأول نجده عند بعض كهنة الرعايا والذين يدورون في فلكهم في هذا الموقف الموصوف أعلاه. الموقف الأخير يمكن أن نراه عند بعض الآباء في الأديار، وبعض الأرشمندريتية المتقاعدين الذين ينتظرون الموت، وبعض الرهبان الذين يتبعونهم. بما أنّ التطهّر والاستنارة ليسا محط اهتمامهما الأّول، كلا الموقفان، من وجهة نظر الآباء، قد حددا لنفسيهما أهدافاً خاطئة. لكن بقدر ما يركّزا على الاستنارة والتطهر ويصير نسك الآباء الأرثوذكسي ممارَساً بهدف بلوغ الصلاة النوسية، عندها وعندها فقط يمكن أن تقوم كل الأمور على أساس ثابت. إن الموقفين هما مبالغة تعكس طرفين ولا يتقاسمان أي جوهر. لكن يوجد جوهر مشترك، بُنيَة تسير عبر الأرثوذكسية وتجمعهما معاً. عندما نأخذ بعين الاعتبار هذا الجوهر وهذه البنية الفريدة، يجد كل ما يتعلّق بالأرثوذكسية مكانه الملائم على أساس ثابت.
هذا الجوهر هو التطهّر، الاستنارة والتألّه. مصير الإنسان بعد الموت لم يكن همّاً غامراً عند الآباء. كان همّهم الأساسي ما يكون عليه الإنسان في هذه الحياة. بعد الموت، لا يمكن علاج نوسه. يجب أن يبدأ العلاج في هذه الحياة، لأن "في الجحيم لا توبة". لهذا السبب، اللاهوت الأرثوذكسي ليس خارج العالم، ولا هو مستقبلي ولا أخروي، بل هو متجذّر بوضوح في هذا العالم، لأن تركيز الأرثوذكسية هو على الإنسان في هذا العالم وفي هذه الحياة وليس بعد الموت. ما حاجتنا إلى التطهر والاستنارة؟ أهي لكي نتمكن من الذهاب إلى الملكوت والهرب من الجحيم؟ ألهذا التطهر والاستنارة ضروريان؟ ما هي الاستنارة وما هو التطهر ولماذا يرغب الأرثوذكس ببلوغهما؟ لإيجاد السبب والإجابة على هذه الأسئلة، ينبغي معرفة ما يعتبره اللاهوت الأرثوذكسي مفتاحاً أساسياً لهذه القضايا.
من كتاب "اللاهوت الآبائي، المحاضرات الجامعية" للأب يوحنا رومانيدس، منشورات Uncut Mountain