أحد حاملات الطيب
المسيح قام... حقاً قام
فرح القيامة
يستحيل أن يعرف الإنسان الفرح الحقيقي دون أن يعرف قبله الحزن الحقيقي. وقد عرف تلاميذ المسيح بوادر هذا الحزن في حين "إبتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب الى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (مت21:16). وقد عاد وأظهر لهم ذلك بجلاء، فيما كان صاعداً الى أورشليم للمرة الأخيرة مع الإثني عشر (مت17:20). وحين اقتربت الساعة لتسليمه جاء معهم الى ضيعة يقال لها
جثسَيْماني فقال للتلاميذ إجلسوا ها هنا حتى أمضي وأصلي هناك. ثم أخذ معه بطرس وإبني زبدى وإبتدأ، كإبن للبشر، يحزن ويكتئب –بسبب مرارة الكأس التي كان مزمعاً أن يشربها- "فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت. إمكثوا ههنا واسهروا معي" (مت36:26) و"إذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. ثم قام من الصلاة وجاء الى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن" (لو44:22). "وحين جاء يهوذا ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، ومضوا به الى قيافا رئيس الكهنة. حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا. إلا أن هربهم لم يمنع متابعتهم للأحداث التي تتالت بسرعة، وملأت قلوبهم كآبة على كآبة، وزادتهم حزناً على حزن. فها إن معلمهم الذين آمنوا إنه المسيح ابن الله" يحكم عليه بالموت، لأنه جدف بقوله أنه المسيح ابن الله!! والأغرب أنه على الرغم من إقراره علناً بصحة التهمة، لم يستطع أن يسكت فعلاً أنه إبن الله، ولا حتى أن يدافع عن نفسه بشيء. فها هم مباشرة بعد الحكم عليه "يبصقون في ووجهه ويلكموه وآخرون لطموه قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك". وها هو بيلاطس الوالي يجلده ويسلمه ليصلب، وها هو عسكر الوالي يعريه ويحقّره فيلبسه رداءً قرمزياً ويضعون على رأسه إكليلاً من شوك وقصبة في يمينه ومن ثم يضربوه بها على رأسه مستهزئين به. وها هم يتطاولون عليه الى حد أن يثقبوا يديه ورجليه مسمرين إياه على الصليب بين لصين ومقتسمين ثيابه بينهم. وكأنه بالذات ذلك المخلص المحتقر الذي تنبأ عنه الأنبياء: "محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن. محتقر فلم نعتدّ به" (أشعياء 3:53). "أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر محتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه وينفضون الرأس قائلين إتكل على الرب فلينجّه. لينقذه لأنه سرّ به... جماعة من الأشرار اكتنفتني ثقبوا يديَّ ورجليَّ. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز6:22). فكيف لا يتألم تلاميذ المسيح ويحزنون، وهم يرون معلّمهم وربّهم متألماً، حزيناً، مهزوماً، محتقراً، بائساً، صامتاً، ضعيفاً، عاجزاً عن إنقاذ نفسه، وهم الذين عرفوه جباراً موبخاً للأشرار والمرائين، مطهراً لهيكل الله، فاضحاً لكل مؤمرات ونفاق المتسلطين، طارداً للشياطين، قاهراً للمرضى والضعفات والموت. أحقاً بهذه السرعة إنتهى كل شيء؟ ها هم ينزلونه عن الصليب أمامهم، ميتاً لا حول له ولا قوة، ومن ثم يدفنوه. وبدا أعداؤه مالكين الموقف من كل ناحية. وبعد أن قتلوه استصدروا أمراً من الوالي بختم القبر ووضع حجر كبير على بابه وضبطه بالحراس. أما تلاميذه فقد خسروا كل شيء، وتحطمت كل آمالهم، وتبخر كل فرح عرفوه بعد صلب المسيح، وصاروا هاربين، مطاردين، خائفين أن يعرف أحد إن كانت لهم علاقة مع يسوع الناصري. وبالطبع فقد شارك التلاميذ في حزنهم وإحباطهم، النساء الكثيرات اللواتي "كنّ قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه"، وبخاصة مريم المجدلية التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين. فحين ظهر يسوع لها، وكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكي، ومن ثم ذهبت وأخبرت الذين كانوا معه، عن قيامته، كانوا "ينوحون ويبكون". حالت الحزن هذه التي لابد منها، عرفها يسوع منذ زمان بعيد، وأراد أن يهيء تلاميذه لتقبلها. لهذا قال لهم في الليلة التي أسلم فيها: "الحقّ الحقّ أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوّل الى فرح. المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدّة لسبب الفرح لأنه قد ولد إنسان في العالم. فأنتم كذلك عندكم الآن حزن. ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم".
فأي فرح سيعرفه التلاميذ حين سيسمعون بأن معلمهم قد قام من بين الأموات. وهل يمكنهم أن يصدقوا ما كان مستحيلاً بالنسبة لجميع البشر في جميع الأجيال، ولو سمعوه من النسوة حاملات الطيب عمّا بشرت به الملائكة، ومن بطرس ويوحنا عن القبر الفارغ، وحتى مما قالته المريمتين أو تلميذي عمواس عن لقائهم بالرب شخصياً بعد قيامته؟ لكن ماذا بإمكانهم أن يقولوا، وهم يرونه الآن، وقد إقتحم الأبواب المغلقة التي كانوا مختبئين وراءها بسبب الخوف من اليهود، ويسمعوه بوضوح يقول لهم أكثر من مرّة: "سلام لكم" وماذا بإمكانهم أن يقولوا وهو يجيبهم عن خوفهم وظنهم أنهم يرون روحاً -وهو ما سيقول شبيهه فيما بعد لتوما في لقائه الثاني معهم-: "ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يديَّ ورجليَّ إني أنا هو. جسّوني وانظروا فإن إن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي"، يقول ذلك لكي يتحول عدم تصديقهم الى فرح؟
وأي فرح سيعيشه التلاميذ، بعد أن تأكدوا أنه فعلاً قد حقق وعده، غير القابل للتصديق، بأنه "بعد أن يتألم كثيراً ويقتل سوف يقوم في اليوم الثالث". وألا يعني هذا أن كل كلمة قالها لهم كانت صادقة، وبأنه الحقّ الحقّ هو "المسيح إبن الله الحي –كما سبق وآمنوا به، وأنه فعلاً "القيامة والحياة"-كما سبق وقال لمرتا – لأنه استطاع أن يقيم نفسه – بحسب طبيعته البشرية - ويعطيها الحياة، بعد أن مات وبالتالي فقد قبل بإرادته التحقير والاستهزاء والحزن والألم والموت فقط لأنه أحب. إذ "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو13:15).
وإن كان هو القيامة والحياة، فأي فرح سيعرفه، بالروح القدس، كل من آمن بيسوع عندما يتذكر تكملة كلامه: "من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت الى الأبد" (يو25:11). كما حين يتذكر أن يسوع قد قام كي يبيد الموت ومعه الألم والفساد. "ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة إبتلع الموت الى غلبة. أين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية" (1كو54:15).
وفي الختام من هو أجدر أن يذوق الفرح الأعظم من الذي ذاق الحزن الأعظم؟ ومن الذي ذاق الحزن الأعظم أكثر من والدة الإله مريم وهي ترى إبنها الوحيد وإلهها يتألم على الصليب ويذوق سكرات الموت، فتتحقق فيها نبوءة سمعان الشيخ: "وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف" (لو35:2). فهل يمكن أن لا تكون الأولى التي بشرها الملاك بالقيامة، كما كانت الأولى التي بشرها بالتجسد؟ وهل يمكن أن لا يحضر إبنها الحبيب لعندها أولاً كي يفرحها بقيامته، بعد أن كانت الأولى التي إمتلأت من الروح القدس، والأقرب من لازمه في حياته على الأرض، والأكثر من حزن لألمه وموته؟ هذا الأمر بقي سراً. بين الإله وأمه، ولم تذكره الأناجيل. إنما بقي صداه يتردد في تسليم الكنيسة الشفهي وفي وجدانها وليتورجيتها. ومنه هذه الترتيلة الرائعة: "إن الملاك تفوه نحو الممتلئة نعمة أيتها العذراء النقية إفرحي واقول أيضاً إفرحي لأن ابنك قد قام من القبر في اليوم الثالث".
(الأب د.جورج عطية)