Monday, March 15, 2010

مريم المصريّة النموذج الحي

في الأحد الخامس من الصوم تعيّد الكنيسة لتذكار "أمّنا البارّة القدّيسة مريم المصريّة". وقد اختارت الكنيسة أن تجعل عيد مريم المصريّة في الصوم لتقدّمها نموذجًا حيًّا للتوبة القاطعة كلّيًّا مع الخطيئة. فمريم سلكت في الخطيئة مسلكًا فظيعًا، أخطأت إلى الحدّ الأقصى بحيث لم يكن ممكنًا أن يخطئ كائن بشريّ أكثر منها. لقد أدركت ذروة الخطيئة وانغمست في الإثم إلى أعمق أعماقه. فانتشلها الربّ بواسع رحمته، وأيقظها من ضلالها، وأعاد إليها رشدها، فقبلت التوبة مدى عمرها الباقي. وبمقدار أكبر من المقدار الذي مارست فيه الخطيئة مارست التوبة. وبشوق ملتهب أكثر من الشوق الذي أحبت فيه الخطيئة عشقت الربّ، إيّاه وحده.
عاشت مريم المصريّة، بحسب ما تقول سيرتها، في الإسكندريّة، أعظم مدن مصر وإفريقيا قاطبةً، بعد أن بلغت الثانية عشرة من عمرها سبعة عشر عامًا في الرذيلة والفجور. وقد ذهبت سائحةً إلى أورشليم لكي تحضر عيد رفع الصليب المبارك، فانهمكت هناك في القبائح، "واجتذبت كثيرين إلى عمق الهلاك". وعندما أرادت، في يوم العيد،
دخول الكنيسة، "شعرت مرارًا بقوّة غير منظورة تمنعها عن الدخول، مع أنّ جمهور الشعب الذي معها كان يدخل من دون مانع البتّة. فانجرح قلبها من ذلك وعمدت أن تغيّر سيرتها وتستعطف الله بالتوبة. وهكذا رجعت ثانيًا إلى الكنيسة، ودخلت إليها بسهولة". وبعد أن سجدت للصليب الكريم نزحت في النهار ذاته إلى أقصى البرّيّة، وعاشت هناك سبعة وأربعين عامًا "عيشة قاسيّة جدًّا لا يحتملها إنسان". وفي أواخر أيّامها صادفت راهبًا يقطن البراري مثلها اسمه زوسيماس. فأخبرته بسيرتها كلّها، وطلبت إليه أن يُحضر لها الأسرار الطاهرة لتتناول، فصنع زوسيماس كما طلبت إليه وناولها. وفي السنة التالية أيضًا رجع زوسيماس فوجدها قد ماتت، وبقربها ورقة مكتوب فيها: "أيّها الأب زوسيماس ادفنْ ههنا جسد مريم الشقيّة. إنّني متُّ في النهار الذي تناولتُ فيه الأسرار الطاهرة، فصلِّ من أجلي".
ترفع الكنيسة القدّيسة مريم المصريّة، وفي الآن عينـه القدّيسـين كـافــّة، إلى مصـافّ النـمـوذج الذي يحتذى لدى المؤمنين كي يبلغوا هم إلى ما بلغ إليه القدّيسون. فنقرأ في صلاة السَّحر: "يا مريم المصريّة، بما أنّنا حويناك نموذجًا للتوبة، توسّلي إلى المسيح أن يمنحنا إيّاها في أوان الصوم" (الإكسابستيلاري). هي نموذج حيّ عن الإنسان الخاطئ الذي إذا سعى إلى التوبة، يجد ذراعي الله مفتوحتين لاستقباله كما استقبل الأب ابنه الضالّ في المثل الشهير. هي نموذج حيّ للمؤمن الخاطئ كي لا ييأس من إمكانيّة التوبة، فمهما بلغت ضخامة الخطيئة عليه أن يدرك تمام الإدراك أنّ الله ينتظره ليضمّه إلى عداد مختاريه. الله لا يخيّب رجاء التائبين والساعين إليه، فهو التوّاب على مساوئ الناس وآثامهم. فهل نحن جاهزون إلى الاستجابة لدعوة الله المفتوحة والدائمة لنا؟
وفي قطعة أخرى في صلاة السَّحر نقـرأ: "أيّتها البـارّة العفيفـة، لمّا جهلـت الأوامـر الإلهيـّة دنّسـت صورة اللـه الإلهيةّ. إلاّ أنـّك بالعنـاية الإلهيّـة طهّرتها أيضًا يا ذات كلّ مديـح، وتألّهـت بالأفعـال الإلهيّة" (الأوديـة الأولى). خطيئـة مـريـم المصـريّـة تكمن في أنّها "دنّست صورة الله الإلهيّة". فالإنسان هو صورة الله ومدعـو إلى أن يكـون علـى مثالـه، كما ورد في رواية الخلـق (سفـر التكـويـن). الإنسان صورة حيـةّ صنعها الله وجعلـه إلهيـًّا، وكلّ خطيئـة يرتكبهـا الإنسـان بجسـده إنّما هي تدنيس لهيكـل الـله. مـريـم طهّرت نفسها، فأعادت البهاء إلى جسدها، فعاد هيكلاً مقدّسًا، عاد مسكنًا لله.

سيرة مريم المصريّة مليئة بالعبر والدروس. فالمرء لا يستطيع التعامل بخفّة لا تطاق مع القدسات. هي أرادت دخول الكنيسة ليس في سبيل الصلاة والتوبة والوقوف في حضرة الله، بل في سبيل مشاهدة الاحتفالات الكنسيّة كما يدخل المرء مسرحًا ليشاهد عرضًا فنّيًّا أو تمثيليّة. أو ربّما أرادت الدخول كي تراود الكثيرين عن أنفسهم، أرادت ارتكاب الفحشاء في هيكل الربّ. فصدّها كي يذكّرها بأنّ دخول الكنيسة لا يشبه دخول أيّ مكان آخر. أراد تذكيرها بأنّ مثولها في مقامه يتطلّب تحوّلاً كبيرًا في ذهنيّتـها وتعاملها مع نفسها. هي وعت ذلك فتغيـّرت تغيّرًا جذريًّا. كم من مرّة نلتقـط نحن إشارات الربّ لنا بالتغيّر؟ وكم من مرّة ندير الأذن الصاغيـة له؟

عندمـا صدّ الـله مريم عن دخول الكنيسة فتح لها أبواب التوبة ودعاها إلى خدره السماويّ، "لمّا كنت، يا مريم، سائرة بأفعالك القبيحة نحو أبواب الهلاك قد فتح لك أبواب التوبة" (صلاة السَّحر، الأودية الثالثة). هي قبلت دعوته فتنسّكت وبترت كلّ فكرة تغريها بالعودة إلى سلوك دروب الرذيلة. ذهبت مريم إلى البرّيّة كي تحيا مع الله وحده. التمثّل بمريم التائبة، وكلّ منّا خاطئ بمقدار، هو ما ينفعنا. هي أدركت خطيئتها فسعت عمرها كلّه لإصلاح ذاتها. ليست القداسة سوى الوعي بأنّنا خطأة علاجنا السعي إلى التوبة بالصلاة والصوم. فليكن زمن الصوم هو برّيّتنا التي ينبغي عبورها كي نصل إلى المجد الإلهيّ.
رَعيّـتي
تصدرها أبرشيـة جبيـل والبتـرون للـروم الأرثـوذكـس
الأحد 21 آذار 2010 العدد 12
الأحد الخامس من الصوم
أحد القديسة مريم المصرية