الروم الأرثوذكس
سيادة المطران جورج خضر
كنيستهم ذات أصول رسولية بمعنى أنه لم ينقضِ زمن من يوم العنصرة لم تكن فيه وبمعنى أنه لم ينشئها إنسان.
في المصطلح الكنسيّ القديم يقال عن الإيمان انه أرثوذكسي وهي كلمة يونانية تعني المستقيم الرأي أو المستقيم تمجيده. ذلك أن استقامة الفكر مكشوفة في العبادات. اذًا لا يقال في الأصل كنيسة أرثوذكسية. يقال فقط كنيسة جامعة (كاثوليكي في اللغة اليونانية). وقد قيل عن كنيسة الروم الأرثوذكس في العصور المتأخرة أرثوذكسية كاثوليكية. إنهما في الحقيقة لفظتان مترادفتان. اذًا أن نجعل الأرثوذكسية مقابلة للكاثوليكية غير مستند الى شيء لغويا.
العرب المسلمون سَمّوا كنيسة الروم الحالية ملكانية أو ملكية لاعتبارهم آنذاك أنها على مذهب ملوك الروم. هذا لم يكن صحيحًا دائما إذ اختلفنا مع أباطرة بيزنطية في فترة قصيرة على عهد هرقل الذي كان من أنصار المشيئة الواحدة، وبعد هرقل اختلفنا مع الأباطرة الذين قاموا بحرب الأيقونات التي انتهت السنة 843.
يبقى أن التسمية العربية الغالبة كانت صحيحة لأن الروم الذين ذكرهم القرآن كانوا الرومان الشرقيين أي الإمبراطورية البيزنطيّة وهي تسمية غربية لرومان الشرق الذين اعتبروا أنفسهم من إمبراطورية روما التي في حسّهم لا تنقسم. فلفظة روم لم تعنِ يوما اليونانيين. هذا خطأ وقع فيه الأوروبيون لما ترجموا عبارة روم أرثوذكس بـ grec orthodoxe بالفرنسية أو ما يشبهها بالإنكليزية. نحن لسنا بقايا عسكر الاسكندر اليونانيين القلائل الذين سكنوا هذه السواحل. لقد أثبت بندلي الجوزي صاحب القاموس الروسي العربي أننا عند مجيء رسل المسيح الى بلاد الشام أو الهلال الخصيب كنا آراميين. عبارة روم أرثوذكس لا تعني اذًا أن لنا نسبًا يونانيًا.
اللغة الطقوسية شيء آخر. كانت يونانية في المدن وهذا نتيجة احتلال الاسكندر، وسريانية في الريف. وهذا لا علاقة له بالمذاهب. كل المسيحيين كانوا على اليونانية أو السريانية بحسب المناطق، وتَعرّب لساننا تدريجا، وكتبنا العربية منذ القرن التاسع الميلادي، وكنّا فصحاء فيها في القرن الحادي عشر لما كنّا نُجادل المسلمين في بلاط الخليفة العباسيّ في بغداد وما كانت لغتهم أجمل. وبقيت السريانية بجانب العربية في الطقوس، وكان يستعمل الكاهن هذه اللغة أو تلك حسبما يعرف رعيته، أي ان الطقس المعروف بالبيزنطيّ كان يؤدّى فترة طويلة من الزمن باللغة السريانية، وكان الإنجيل يُقرأ فيها في كنائسنا حتى القرن السادس عشر.
فالقول إن هذه الكنيسة كانت عربية من حيث العرق أو الدم أو اللغة ليس صحيحا. أما أنها في زمن الثورة العربية في الحرب العالمية الاولى كانت تحسّ بعروبتها فهذا صحيح. نحن في سوريا ولبنان والَينا الأمير فيصل. معنى ذلك أننا رفضنا الاستعمار الفرنسيّ وما نتج منه من تقسيم الامبراطورية العثمانية.
كنت مرة أحاول مع غسان تويني أن أصف الأرثوذكس سياسياً فقلت له:
nous sommes d’empire. هذه عبارة ليس تعريبها سهلا، فأوضحتُ لغسان أننا أحسسنا في بدء المسيحية أننا قائمون في الامبراطورية الرومانية التي هي ذاتها البيزنطيّة. وسلكنا بعد الفتح الإسلامي على أننا ننتمي الى دار الإسلام في حكمها وليس في دينها. وهذا ما أوضحناه للأمويين لما أدرنا شؤونهم المالية وبنينا لهم أسطولا في ميناء طرابلس وهم احترموا عقيدتنا وشعائرنا.
غير أننا لم نحسّ أننا ننتمي الى الإمارات الصليبيّة التي اضطهدَتْنا حتى الذبح. في العهود الإسلامية كلها لم يطبّق نظام أهل الذمّة في كل الأزمنة. وغير صحيح تاريخيا أن عقليّتنا كانت عقلية ذمّية في حين أن غيرنا لم يكن على هذه العقليّة. كل رعايا السلطان العثمانيّ المسيحيون كانوا يدفعون الجزية لما كانت الجزية، لكنها ألغيت قانونيا في السلطنة في منتصف القرن التاسع عشر لما أخذت السلطنة تسنّ تشريعات مدنية. بتواضع أقول إني أرجو ألاّ يتسابق المسيحيون في رفض الذمّية. أصحابها تركوها منذ قرن ونصف قرن.
الأرثوذكسيون لا يخلطون بين انتمائهم الدينيّ وولائهم الوطنيّ. في حوادث الـ1958 حيث كان التشرذم مسيطرا على البلد، كان الأرثوذكسيون واحدًا مع الحكم اللبناني ضد ما اعتُبر تدخلا إقليميا. في الحرب الأهلية الأخيرة لم يكن لهم ميليشيا وما باركت كنيستهم ولا لعنت احدًا من أبنائها اذا ما تحزّب لفريق أو لآخر. يمكن القول حتى اليوم إن الشعب الأرثوذكسي بجملته لبناني في لبنان وان ليس فيه أي تأزم على هذا الصعيد. أضف الى هذا أن كنيسته منذ صيف 1975 كانت تتخذ مواقف صريحة ضد إسرائيل واردة كلها في سجلّ مجمع المطارنة الذي يرئسه البطريرك، وهذا في حرية كاملة. وهذا الموقف لم يكن مرتبطا بحبّنا للأماكن المقدسة ولكن كان تقديسًا منّا لحقوق الشعب الفلسطيني. نحن ما تكلّمنا مرّة عن مسيحيّي فلسطين ولكن عن كل الفلسطينيين.
في السياسة الداخلية ليس للأرثوذكسيين موقف واحد لأنهم لا يرضون في عمقهم أنهم طائفة من الطوائف. يعرفون أنفسهم كنيسة. لذلك من المستحيل كيانيا أن يمشوا وراء زعامات أرثوذكسية. لم يكن لهم يوما زعيم ليس لأنهم منقسمون ولكن لكونهم يحترمون الخيار السياسيّ لكل مؤمن بينهم باعتبار أن هذا الخيار لا يمسّ الحياة الأبدية.
يقال اليوم إنهم يأخذون يعون أنفسهم مغبونين في ما يتعلّق بوظائف الدولة. هذا الأمر أبانته جريدة "اللواء" من فترة قصيرة بالأسماء والوظائف المختلفة وكان على المقال مسحة من الروح العلمية الكبيرة. منذ عشرين سنة أو اكثر كنت أتحدث مع وزير أرثوذكسي في هذا الأمر قال لي لا نستطيع أن نتخذ خطوة قبل القيام بإحصاء.
ربما أتى توزيع الوظائف بناء على قاعدة عدم طائفية الوظيفة. ولكن يحقّ للمرء أن يتساءل لماذا فرّت الوظائف العليا في الفئة الأولى من أكفياء الروم الأرثوذكس وكانوا فيها ليشبعوا من الفتات؟ أظن أننا في هذا البلد تكافأنا الآن في الفهم، ولكن قبل إلغاء الطائفية السياسية (وقال لنا الأعظمون إن هذا قد يأخذ عقدين أو ثلاثة) نحن في حكم الطائفية السياسية وفي حكم الاستقامة ايضا والتقدير. هناك أقلوّية معنوية. لا تُجْبروا عليها الطائفة الرابعة في البلد، التي ولو تواضعت في تقدير نفسها ليست دون سواها غيرة على البلد ولا دون أحد على مستوى الشهادات. الولايات العثمانية في بلاد الشام كانت تعرف موهبة الروم الأرثوذكس على مستوى الإدارة والمال.
أنا لست أطلب شيئا الآن ولم نتشاور على مستوى القيادة الروحية، ولكني أرجو أن تقدم الدولة على منفعة ذاتها باستخدامها الصالحين. كان عليّ بن أبي طالب يقول: الفهم، الفهم. أرجو أن تكون لنا دولة قائمة على الفهم.