ليتورجيا القدسات السابق تقديسها
كما هو واضح من التسمية، هذه الليتورجية هي خدمة تناول القدسات التي تمّ تقديسها وتكريسها في قداس سابق. وهي الخدمة التي تقام في ايام الصوم الكبير، باستثناء يومي السبت والاحد، وفي ممارستنا الحالية تقام يومي الاربعاء والجمعة.
اقدم الاشارات الواضحة عن هذه الممارسة في الكنيسة تعود الى بداية القرن السابع (615) ، في وثيقة تشير الى ان خدمة القدسات السابق تقديسها كانت تمارس في كنيسة
القسطنطينية، ولو لم يكن ذلك بالشكل الذي نعرفه اليوم. ولكن قبل ان نتطرق الى تاريخ هذه الخدمة واصولها (الامر الذي سنوضحه في الاعداد الاتية من "رعيتي")، لا بد من ان نقول كلمة في الاسباب التي من اجلها لا نقيم قدّاساً عادياً في ايام الصوم الكبير. فهناك قوانين مجمعية تمنع اقامة القداس او التقدمة في ايام الصوم. فالقانون 94 من مجمع اللاذقية المحلي المنعقد بين 343 و 381 م ينص على انه " لا يجوز تقديم الخبز في ايام الصوم الكبير، باستثناء السبت ويوم الرب". ويشير القانون 25 من المجمع المسمى الخامس - السادس ( ترللو ( القبة) ) المنعقد في سنة 692 م الى انه " يقام قداس القدسات السابق تقديسها في كل ايام الصوم الكبير ما عدا السبوت والآحاد ويوم عيد البشارة المقدس ."
عدم اقامة قداس عادي في ايام الصوم هو ، منذ البدء، تعبير عن الوعي بأن سر الشكر (الافخارستيا) بمعناه لا يتوافق والصوم. حتى نفهم هذا ينبغي ان ندرك اولا معنى سر الشكر في تقليدنا. يحتفظ سر الشكر في التقليد الارثوذكسي بطابعه الاحتفالي والبهيج. فهو قبل كل شيء سر مجيء المسيح وحضوره بين تلاميذه، وبالتالي هو الاحتفال بقيامته. وحضور المسيح في الخبز والخمر في سر الشكر هو، على هذا الاساس، دليل على قيامته. والفرح الذي اختبره التلاميذ على طريق عمواس، عندما كشف لهم السيد نفسه بكسر الخبز (لوقا 24 :13-35)، هو الفرح نفسه الذى تختبره الكنيسة دوما على اساس معرفتها بالقيامة.
سر الشكر بالضبط، هو هذا المجيء والحضور عينه، والفرح نفسه. انه يستبق الفرح الاخير بلقاء العريس في ملكوت الله. السيد بموته وقيامته فتح لنا بابا على هذا الملكوت، دشنه. الملكوت لم يأت بعد لكنه مبدوء منذ الآن، كالبذرة التي تنمو لتصبح شجرة كبيرة. نقول في خدمة القداس العبارة التالية:" اننا اذ نحن متذكرون موتك وقيامتك ومجيئك الثاني المجيد ..." . التذكر ليس مجرد استرجاع ذهني للاحداث، بل هو ان يصير الحدث حاضرا عندك بالفعل. وان تتذكر المجيء الثاني، الامر الذي لم يحدث بعد، يصير ممكنا اذا كان هناك استباق لهذا المجيء، او تذوق له اذا شئت، بواسطة سر الشكر وتناول جسد الرب ودمه.
من جهة اخرى، الصوم هو مسيرة الكنيسة نحو ملكوت الله، هو حج نحو هذا الملكوت "وابناء الملكوت"، يقول السيد، " لا يستطيعون ان يصوموا ما دام العريس معهم" (متى9: 15). عندما يرفع العريس ينتظرون. الصوم هو هذا الانتظار، هذا الاعداد للمجيء. من هنا يمكننا ان نفهم عدم موافقة سر الشكر بهذا المعنى للصوم.
ولكن السؤال المطروح هو، ان كان الامر هكذا فلماذا نتناول القدسات السابق تقديسها في الصوم. هنا يجب ان نشير الى الجانب الآخر من سر الشكر وهو الجانب الروحي. فالمناولة الى جانب كونها استباقا للفرح الاخير، فهي ايضا ينبوع قوة وعضد في المسيرة نحو هذا الملكوت. الصوم هو هذه المسيرة ، وهو مسيرة صعبة، فيه نواجه الشرير وقواته وجها لوجه، نصير في صراع مع قوى هذا العالم والشهوات. في صراعنا هذا لا بد لنا من معين والمعين هو المناولة نفسها. ولئن كانت المناولة كمال الجهاد وهدفه، الا انها ايضا مصدر لهذا الجهاد وبداية له. ليس هناك احتفال بسر الشكر في ايام الصوم لأن الاحتفال هو حركة مستمرة للفرح، انما هناك وجود لثمار سر الشكر.
نتساءل ايضا عن اقامة قداس يوم السبت او الاحد في الصوم . في القوانين الكنسية منع للصوم يومي السبت والاحد. اساس هذا هو ان يوم الاحد، يوم الرب، يتجاوز الصوم كما يتجاوز الزمن. يكسر الصوم بسر الشكر الذي هو تحقيق للانتظار. يوم الاحد نتذكر قيامة السيد، فهو اذا يوم الملكوت الذي لا يمكننا ان نحسبه من هذا الزمن، لذلك ندعوه اليوم الثامن، لكننا في السبوت والآحاد في الصوم نستمر في ما نسميه شعبيا القطاعة" اي الامتناع عن بعض الاطعمة. هذا النوع من الصيام يستمر الى يوم العيد ولا يتوقف كما الحال مع الصيام العادي، اي الامتناع عن طعام لفترة محددة من اليوم.
انطلاقا مما سبق ينبغي علينا ان نفهم معنى القداس السابق تقديسه والهدف من اقامته في ايام الصوم الكبير. يمكننا اذ ذاك ان نحاول دراسة تاريخه واصوله وكيف تطور مع مرور الوقت الى الشكل الذي نعرفه اليوم.
تعود أقدم الشهادات على وجود ليتورجيا القدسات السابق تقديسها الى القرنين السابع والثامن. نجد احدى هذه الشهادات في كتاب "التقويم الفصحي":"في تلك السنة (615)، في زمن سرجيوس بطريرك القسطنطينية، أُدخل ترتيل بعد "لتستقم صلاتي". وفيما يتم نقل القدسات السابق تقديسها من المكان الذي تُحفظ فيه القرابين، بعد إعلان الكاهن "بواسطة موهبة مسيحك"، يرتل الشعب "الآن قوات السماوات يخدمون معنا بحال غير منظورة. فها ان ملك المجد يدخل. ها ان الذبيحة السرية تتزيح مكمَّلة. فلنتقدم بايمان ومحبة ونصير مشاركي الحياة الأبدية. هللويا"0
هذه الشهادات، بالإضافة الى القانون 25 من مجمع تْرُوللو المسكوني (سنة 692) الذي يأمر بأن تقام القدسات السابق تقديسها في الصوم، لا تدل على ان هذه الليتورجيا كانت تُمارس في القرن السابع فحسب، بل انها كانت مرسخة في التقليد، وانه مرَّ وقت طويل على ممارستها في الكنيسة.
يدّعي علماء الليتورجيا ان أساس هذه الخدمة هو في المناولة الذاتية التي كانت تُمارس في العصور المسيحية الاولى، وهي ان يأخذ المسيحيون الى بيوتهم، بعد الاجتماع الافخارستي، الجسد والدم المقدسين ويتناولوا منهما في ايام الاسبوع حين لا يكون قداس. نجد ذكر المناولة الذاتية عند العديد من الآباء والكتاب: يذكرها يوستينوس الشهيد في القرن الثاني، ويقول ترتليانوس (القرن الثالث) انها عادة طبيعية تجري كل يوم، ويقول اقليمندس الاسكندري (القرن الثالث) انه بعد كسر الخبز يحق لكل مؤمن ان يأخذ جزءا منه الى بيته، ويربطها القديس باسيليوس الكبير بأزمنة الاضطهاد.يتكلم باسيليوس عنها محبذا اياها ومعطيا اياها معنى لاهوتيا، اذ يقول انه حسن ونافع جدا ان نشترك في جسد المسيح ودمه المقدسين يوميا. استمرت ممارسة المناولة الذاتية بعد الاضطهاد لا سيما عند الرهبان المتوحدين في البراري حتى القرن الخامس عشر إذ يذكرها القديس سمعان التسالونيكي.
يقول البعض ان ممارسة قداس القدسات السابق تقديسها ابتدأت في اورشليم التي كانت طقوسها، منذ البدء، تؤثر على طقوس الكنائس الاخرى. الا ان الرأي المرجح، والأكثر ثباتا هو انها نشأت في انطاكية في زمن بطريركها ساويرس (512-518)، ما بين القرنين الخامس والسادس، فقد عُرف عن ساويرس انه اهتم كثيرا بالليتورجيا وجمع الأناشيد التي كانت تُتلى منذ العصور الاولى، وانه أدخل امورا جديدة على الممارسات والتقسيم الطقسي السنوي، ومنها استبداله المناولة الذاتية في المنزل بالمناولة الجماعية في الكنيسة، ويشهد لهذا المؤلف ابن العبري (القرن 13) في كتابه "النوموقانون".
من انطاكية انتقلت هذه الخدمة الى القسطنطينية التي قبلتها ما بين السنوات 531-536، وصارت تقيمها بشكل اكثر تواترا من انطاكية. ففي حين اقتصرت اقامة هذه الليتورجيا في انطاكية على ايام الصوم الكبير، كانت تقام في القسطنطينية في ايام اخرى. وتنص قوانين البطريرك نيكيفورس المعترف (806-815) على إقامتها كل اربعاء وجمعة على مدار السنة (الا اذا وقع فيها عيد) ويوم عيد رفع الصليب.
نجد في مخطوط من القرن التاسع يحتوي على السواعي حسب دير القديس سابا قرب اورشليم ان القديس سابا، على مثال معلمه القديس افتيموس، كان يذهب الى الصحراء في العشرين من كانون الثاني ويبقى هناك حتى سبت لعازر في وحدة تامة. وقد حفظ عدد كبير من رهبان فلسطين هذه العادة. لكنهم لم يحرموا انفسهم من المناولة، اذ كانوا يأخذون القدسات معهم الى الصحراء ويتناولون منها. كان المتوحد يتناول بعد الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيتنا وكان يتلو "صلوات من اجل المناولة" وهي كناية عن التطويبات (متى 5 :3-12) وآيات من المزامير. ثم تأتي صلاة الشكر بعد المناولة. يضاف اليها طبعا دستور الايمان والصلاة الربية.
الترتيب الأقدم لليتورجيا القدسات السابق تقديسها نجده في مخطوطة تعود الى القرن الثامن او بداية القرن التاسع. تحوي صلوات تشبه الترتيب الحالي: صلاة الموعوظين، صلاة اعداد النور المقدس، صلاة المؤمنين الاولى، صلاة المؤمنين الثانية، صلاة نقل القدسات، الصلاة الربانية، الختم. واستنادا الى هذا المخطوط كان ترتيب الخدمة يأتي ضمن صلاة المساء.
سنتناول لاحقا دراسة كل عنصر من عناصر هذا الترتيب وما دخل على هذه الخدمة من صلوات على مرّ العصور في ممارستها في ايام الصوم.
الترتيب الأقدم لليتورجيا القدسات السابق تقديسها نجده في مخطوط يعود الى نهاية القرن الثامن او بداية القرن التاسع. يحوي هذا الترتيب عناصر مشابهة لما نجده في الخدمة الحالية: صلاة من اجل الموعوظين، "يا الله الهنا الخالق والمبدع كل الأشياء..."؛ صلاة من اجل المستعدين للاستنارة (المعمودية)، "ايها السيد أظهر وجهك..."؛ صلاة اولى من اجل المؤمنين، "ايها الإله العظيم المسبح..."؛ صلاة ثانية من اجل المؤمنين، "ايها السيد القدوس الفائق الصلاح..."؛ صلاة من اجل نقل القرابين، "يا إله الأسرار التي لا يُلفظ بها..."، تليها مباشرة "ابانا الذي في السماوات..."، ثم صلاة بعد المناولة، "نشكرك ايها الإله مخلص الكل..." ثم صلاة المنبر، " ايها الإله الضابط الكل...". وفي التعليمات التي تسبق هذه الصلوات نقرأ الآتي: "في صلوات اضاءة الشموع، بعد القراءات، و"لتستقم صلاتي"، و"يا رب ارحم"، تُقال صلاة من اجل الموعوظين قبل السابق تقديسه". هذا يعني ان ليتورجيا القدسات السابق تقديسها كانت تُقام عند المساء، بعد ان تُقرأ قراءات، وترتل "لتستقم صلاتي"، و"يا رب ارحم". يلي هذه العناصر صلاة خاصة تليها المناولة.
القراءات: في ممارستنا الحالية هناك قراءتان، الاولى من كتاب التكوين والثانية من كتاب الأمثال، وتبتدئ هاتان القراءتان من الاسبوع الأول من الصوم وتستمران حتى نهايته. يُجمع علماء الليتورجيا على ان هذه القراءات مرتبطة بالتعليم الذي كان المزمعون ان يتقبلوا المعمودية يوم سبت النور يتلقنونه من الأساقفة طيلة الصوم الكبير. موضوع هذا التعليم كان مرتبطا بكتاب التكوين وما فيه من حديث عن خلق الله للعالم والانسان، وسقوط الانسان وما نتج عنه، وتصميم الله لخلاص الجنس البشري بواسطة مخلص. تعليم الموعوظين في ايام الصوم يعود الى الازمنة المسيحية الاولى. تشهد على وجوده في كنيسة اورشليم، في القرن الرابع، الرحّالة ايثيريّا التي أتت الى الأراضي المقدسة للحج، ودوّنت كل ما كانت تراه من ممارسات. حسب شهادات القرن الخامس في اورشليم، كان التعليم يحصل في فترة بعد الظهر وتحديدا بعد صلاة الساعة التاسعة (الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيتنا). لما كان القديس يوحنا الذهبي الفم كاهنا في انطاكية (386) كان يتولّى امر هذا التعليم. وقد استمر هذا التقليد في القرون اللاحقة. يتضح هذا من عظة لساويرس بطريرك انطاكية يقول فيها: "خلال الصوم الأربعيني، نقرأ التكوين، اي الكتاب الذي يتحدث عن الخلق". وكان التعليم يستمر حتى المساء، ساعة اضاءة الانوار وبداية صلاة الغروب.
"لتستقم صلاتي" : آية من المزمور 140 نتلوها في ممارستنا الحالية بعد القراءتين. طريقة تلاوتها تذكرنا بما يُسمى بالبروكيمنن الكبير. هذا كناية عن آية كتابية ترتل بشكل مطوّل، وتتكرر مرات عدة، يسبق ترتيلها كل مرة آية من المزامير. هذا النوع من الترتيل كان ولا يزال، مرتبطا بالقراءات في الكتاب المقدس، فهو امّا يسبقها او يليها. يتخلله تبخير. يشهد على وجود "لتستقم صلاتي" في الخدمة القديس يوحنا الذهبي الفم. الملاحظ ان هذا المزمور تُتلى منه الآية الثانية وليس الاولى. هذه عادة ورثتها كنيسة سوريا اولا ثم كنيسة فلسطين عن كنيسة الرها.
الصلوات من اجل الموعوظين والمؤمنين: ترتيب الخدمة في المخطوط المذكور اعلاه يضع بعد "لتستقم صلاتي" و"يا رب ارحم"، صلوات من اجل الموعوظين والذين يستعدون لقبول المعمودية، وصلوات اخرى من اجل المؤمنين. هذا الترتيب مستوحى من صلاة الغروب السريانية القديمة كما كانت تتم في القرن الرابع، والتي كانت تتألف من مزمور واحد عند اضاءة الشموع وصلوات عدة للموعوظين والمؤمنين.
إضاءة الشموع (نور المسيح...): في الترتيب الحالي للخدمة، بعد القراءة الاولى من كتاب التكوين، يتجه الكاهن نحو الشعب حاملا شمعة مضاءة ويقول: "نور المسيح يضيء الجميع". اصل هذا الطقس قد يكون في التقليد اليهودي بأن تُقال صلاة شكر لله عند اضاءة الشموع من اجل النور الذي اعطاه ليتسنى للناس ان يروا في ظلام الليل. في زمن مبكر جدا اخذ المسيحيون هذه العادة وأعطوها معنى آخر. فالنور الذي يضاء عند الاجتماع للصلاة هو تذكير لهم بحضور المسيح في ما بينهم، الذي دعا نفسه "نور العالم" (يوحنا 8:21 و9:5). وقد كانوا يضيئون الشموع بهذا المعنى، في صلوات الغروب، او بعد تعليم الموعوظين في ايام الصوم، او عند اجتماعهم لتناول طعام المحبة. يقول ترتليانوس (القرن الثالث) في وصفه احد الاجتماعات لتناول طعام المحبة ان كل انسان بدوره كان يُسأل ان يقف امام النور ويرتل نشيدا لله من الكتاب المقدس. كما نجد شهادات على هذه العادة في القرن الرابع عند القديس باسيليوس الكبير والرحّالة ايثريّا. وقد كانت هذه العادة تُمارَس في البيوت ايضا. لكنها ارتبطت اساسا بتعليم المستعدين للمعمودية المسماة ايضا "استنارة"، ومن هنا القول "نور المسيح يضيء للجميع". إضاءة النور كانت تنهي الفترة المختصة بتعليم الموعوظين وتفتتح صلاة الغروب.
هكذا نجد ان مناولة القدسات السابق تقديسها لم يكن له خدمة خاصة بهذا المعنى، بل كان يتم ضمن ترتيب صلاة الغروب عند المساء في ايام الصوم بعد:
1) تعليم الموعوظين واولئك المستعدين للاستنارة (القراءة من كتاب التكوين اثر من هذا التقليد)،
2) الاعلان "نور المسيح يضيء للجميع"،
3) "لتستقم صلاتي"،
4) صلوات من اجل الموعوظين والمؤمنين وهي في الأصل من ترتيب صلاة الغروب السريانية القديمة.
هكذا كانت الخدمة تحصل على الاقل في القرن الثامن. بعد هذه الفترة وخصوصا في القرون العاشر حتى الخامس عشر طرأ على الخدمة زيادات وإضافات في شكل الخدمة وطريقة ممارستها.
تقترب ليتورجيا القدسات السابق تقديسها من ليتورجيا القديس باسيليوس الكبير من جهة انهما تقامان مع صلاة الغروب او ضمنها. وتقترب ايضا، وللسبب عينه، من ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم عندما تقام مع صلاة الغروب يوم بشارة العذراء اذا وقع في ايام الاسبوع في الصوم الكبير. هذا التشابه كان دافعا لأن تدخل في خدمة القدسات السابق تقديسها عناصر تنتمي الى الليتورجيات الكاملة، خصوصا في ما يتعلق بإعداد القرابين وبدء الخدمة.
تُظهر المخطوطات التي تورد نص الخدمة، ما بين القرنين العاشر والسادس عشر، انه كان هناك تقليدان لافتتاح الخدمة. فقسم من هذه المخطوطات يورد "مباركة هي مملكة الآب"، والقسم الآخر "تبارك الله الهنا" عبارة افتتاح الصلوات العادية. التقليد الذي يورد "تبارك الله" افتتاحا للخدمة يبرر نفسه بأن هذا الاعلان يتناسب وحالتنا الوضيعة التي يمكن ان نشبهها "بغصن زيتون مكسور"، في حين ان الاعلان "مباركة هي مملكة الآب" علامة للنصر والظفر. في ممارستنا الحالية يقال الاعلان "مباركة هي مملكة الآب" بينما في الواقع نحن نقيم صلاة غروب. وهذا حتما من تأثير القداديس الكاملة.
أُدخلت ضمن الخدمة صلوات يقولها الكاهن قبل الدخول الكبير، وهي اساسا ليست من الترتيب الاصلي بل نتيجة تطورات لاحقة. قبل الدورة يقول الكاهن "الآن قوات السماوات"، وهي نفسها ترتل اثناء الدورة. هذه الترتيلة، كما أشرنا سابقا، تعود الى القرن السابع على الأقل.
عبارة "القدسات السابق تقديسها للقديسين" لا ترد في أقدم المخطوطات التي تحوي الخدمة ولا في تلك القريبة منها زمنيا. لكن غيابها لا يعني ان طقس الرفع والكسر نفسه لم يكن موجودا. فهذه الحركة شديدة الأهمية بعلاقتها مع المناولة اذ تعود في اصلها الى عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه حين رفع الخبز وشكر وكسر. لكن في ليتورجيا القدسات السابق تقديسها لم تكن تُمارَس، بل دخلت في وقت لاحق.
اثناء مناولة الكهنة يرتل الجوق "ذوقوا وانظروا ما اطيب الرب"، وبعد المناولة تُرتل القطعة التالية "ابارك الرب في كل وقت". هذه آيات من المزمور 33، وقد ورد في كتاب "المؤسسات الرسولية" (القرن الخامس) ان لهذا المزمور صلة وثيقة بالمناولة.
بعد المناولة تتلى صلاة الشكر وهي قديمة. الصلاة الأخيرة التي تقال عند المنبر: "ايها السيد الضابط الكل، يا من ابدعت الخليقة كلها بحكمة"، هي احدى اقدم الصلوات في ترتيب الخدمة. هناك مخطوط واحد من القرن الثالث عشر يستبدلها بتلك التي تقال في ليتورجيا الذهبي الفم.
هكذا نجد ان ليتورجيا القدسات السابق تقديسها لم يكن لها الطابع الاحتفالي في البدء. فلم تكن سوى خدمة صلاة غروب تتم فيها مناولة المؤمنين من الجسد والدم اللذين سبق تقديسهما في قداس سابق، في فترة الصوم. في الفترة الممتدة من القرن العاشر حتى السادس عشر وهي فترة تطورات ليتورجية مهمة طرأت على الاشكال والممارسات الليتورجية، أُدخل الطابع الاحتفالي على الخدمة واعتُبرت قداسا بإزاء قداسي باسيليوس الكبير والذهبي الفم. هذا الأمر أدّى الى دخول عناصر من هذين القداسين الى ليتورجيا القدسات السابق تقديسها أوصلتها الى الشكل الذي نعرفها فيه اليوم.
يبقى ان نقول كلمة في مؤلف هذه الخدمة. تُنسب ليتورجيا القدسات السابق تقديسها عادةً الى القديس غريغوريوس الكبير بابا رومية (590-604). لكن هذه النسبة ليست قديمة، وبالتالي لا يمكننا الارتكان اليها. فأقدم الكتابات التي تتكلم عن حياة القديس غريغوريوس الكبير لا تذكر ان له مؤلفات ليتورجية. في احدى المقدمات التي ترد قبل رواية حياته تُقرأ العبارة التالية: "يقال انه هو الذي وضع القاعدة بأن تقام "ليتورجيا كاملة" في كنيسة رومية في ايام الصوم، وهو امر لا يزالون يحافظون عليه". هذه المعلومة صحيحة على الأرجح، فالكنيسة الغربية لا زالت تقيم قداسا كل يوم في ايام الصوم ما عدا الجمعة العظيمة. في وقت لاحق وبسبب نزاعات بين الكنيستين الارثوذكسية واللاتينية حول المناولة والطريقة التي تتم فيها (من الجسد وحده او من الجسد والدم كليهما)، أُلغيت عبارة "ليتورجيا كاملة" من المقدمة المذكورة آنفا ووضعت مكانها عبارة "ليتورجية القدسات السابق تقديسها". وانتشرت في المخطوطات لكن هذا لم يتم قبل القرن السادس عشر. وقد رفض نسبتها الى غريغوريوس الكبير بطريرك اورشليم دوسيثاوس الثاني (1669-1707) في تعليقه على القانون 52 من المجمع الخامس-السادس (692).
في الحقيقة، الخدمة كما عرضناها تاريخيا لا تستدعي ان يكون لها مؤلف كما في خدمتي باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، حيث لدينا ما سُمي "انافورا"(التقدمة) وهي قطعة منسقة وأدبية تشكل قلب القداس ولاهوته. اظهرنا ان ليتورجيا القدسات السابق تقديسها هي في الأصل صلاة غروب فيها عناصر من تقليدات ليتورجية مختلفة وان امورا اخرى دخلت اليها بتأثيرات خارجية في فترات لاحقة. نسبتها الى غريغوريوس الكبير لا اساس لها سوى الظن بعد القرن السادس عشر، انه هو الذي ادخلها الى ممارسة كنيسة روما.
نقلاً عن رعيتي