المطران جورج خضر
نحن فصحيّون أو نشتهي أن نكون كذلك. سندخل بعد يومين في هذا التوق بالصيام المسمّى الأربعيني وهو تربية تُقوّي فيها هذا التوق يوما فيوما وجهادا بعد جهاد لنستحقّ صبغة النور في عيد القيامة. نور للروح ونور للجسد في المساكنة التي بينهما الى حدّ التلاحم. ونحن لسنا في حديث قمع أحدهما للآخر. وإن أباحت اللغة ...استعمال كلمة إماتة فليس لنتحدّث عن إماتة للبدن، ولكن
لكي نتكلّم على إماتة الأهواء والشهوات النابعة منها بغية اتحاد كياننا وكيان المسيح. بلا معرفة هذا الهدف، يأتي صومك متعة حرمان بشكل حمية.
ليس عندنا أمر إلهيّ بالصوم في الإنجيل. ولكن عندنا ما هو أبلغ، أعني صيام المسيح في البرية عندما كان يجرّبه الشيطان. أما زمان الصوم وتنظيمه وأطعمته فرتّبتها الكنائس منذ القديم كلّ واحدة منها في خيارها حتى اصطلحت الكنائس على أن نخصّص فترة أربعين يوما للرب متهيئين للعيد. وقد فهم آباؤنا في خبرتهم الروحية وبعدهم فرويد أن لذة اللسان واللذائذ الأخرى مترابطة، وأنك إن استطبت كثيرا وفي شراهة او رهافة تذوّق ما يؤكل يجعل تشهّيك خطرا على النفس، وتدرك أن الانكفاء عن بعض طعام وعن الخمر يقرّبك من الهدوء، والهدوء الداخلي يهيئ لك سبل الرؤية وربما سبل الرؤيا.
لذلك كان قومي الى عشرات من السنين يتناولون وجبة واحدة في اليوم بعد أداء صلاة الغروب، وهذا أمر تحدّث فيه القديس أبيفانيوس القبرصي في القرن الرابع، وكان ذلك قبل التشريع الكنسي الذي اتّخذ فقط في المجمع الخامس - السادس في اواخر السابع.
ثم استرخينا، ولانعدام النص المقنن، أخذنا نفطر عند الظهر، ولكن استسلمنا بالصلوات كلّ يوم اذ الصلاة عندنا هي الغذاء. سألني أحدهم مرّة: ماذا تأكلون؟ قلت: "نأكل صلاة". لست أعلم اذا هذا المرء فهم جوابي لكني أعرف حقيقة جوابي. كيف تدخل في الحركة الصيامية كلها وكيف تسوق نفسك الى ضياء الفصح ذلك كان السؤال، وإن لم تفعل هذا فأنت مستغرق في جسدانيتك حتى غور أخطائها. هل تريد أن تستبق الانبلاج لأنوار العيد لتعرف نفسك إن كانت ذوّاقة لعيد الأعياد وموسم المواسم أَم يكفيك تراكم الأيام تافهة عليك؟ هل أنت متململ حتى تجنح ام تقودك الأيام في حزنها؟
• • • هناك غير البعد التقشّفي الفردي. هناك لصوقنا بالجماعة. نحن نصوم معا لكوننا نستقبل القيامة معا. انت تتطهّر مع الإخوة وفي سبيل الإخوة. نحب أن نعرف أننا جسد المسيح في الجهاد الواحد، في التوثّب الواحد انتظارا لليقظة الواحدة اذا حان حينها.
هذا يرافقه تتابُع مع الصلوات المفروضة وتلاوة الفصول الإنجيلية الموضوعة ولا سيما في الآحاد وهذا كلّ مسبوك او منسوج لكي ما ترقى من درجة الى درجة في العبادة ومن العميق الى الأعماق لأن النفس الصائمة تحب أن تحب وأن تشفّ لتتقبّل النعمة الراضية عنها وتكونها في بلّورية السلام.
نحن نعرف أن آباءنا الذين رتّبوا القراءات يوما بعد يوم وأحدًا بعد أحدٍ وذكرى قديس بعد ذكرى إنما كانوا صوّامين يوصلون الصلاة بالصلاة والدعاء وبالدعاء، تعبهم راحة، وانتقاص الأشياء عندهم غنى لكونهم يستغنون بما ينزل عليهم ولا تفوتهم بركات ويبلغون نهاية عزمهم متحسّرين على انقضاء صوم مبارك.
ماذا نزل على أكابرنا حتى نسقنا كل هذا الجمالات خلال سبعة قرون وأن نلازمها بدا لنا الحياة. لذلك نتوب في هذا الصوم او نحاول. كيف نصبح ناسا جددا هذا كان السؤال. كيف تتحول وجوهنا الى وجه يسوع هذا يبقى الهمّ. في هذا يتبيّن ايمانك لأن بعض الإيمان مراس والمراس وحده برهان الحب. الكلام في الروحيات بعض روحيات لكنه ليس كلها. الكل في المصلوبية التي تفرضها المحبة. وفي مصلوبيّتك تنتظر تفجر القيامة على رجاء أن تزول عتمات الخطيئة كلها.
في هذه الأربعينيّة المقدسة وفي تلألئها تشبه كنيسة الأرض كنيسة السماء. كيف تأخذنا الأشواق؟ الكلمات الخارجة من فم الله تصير هي الشوق والإقامة معًا. فالسماء تنزل عليك شرط صعودك اليها.
• • •السماء تنزل عليك وعلى الإخوة الفقراء اذا أحببتهم اذ كان أحد العناصر التي أوجبت الصيام قبل تقنينه في القرن السابع أن ما يوجبه الصوم التصدق على الفقراء بثمن الطعام الذي يمتنع المؤمنون عن استهلاكه، فقد كتب احد الآباء المعروفين بالمُدافعين عن الإيمان الى الامبراطور داعيا إياه الى عدم اضطهاد المسيحيين وذلك في القرن الثاني اذ قال ما مفاده اننا نحن المسيحيين عندنا حسنة، وهو أننا نُمسك عن الطعام إن وجدنا بيننا فقيرا لا يأكل. وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم المتوفى السنة الـ 407 أن روما لم يبقَ فيها فقير وثنيا كان أم مسيحيا بسبب عناية المسيحيين بكل الفقراء. هذا ما يدلّ على ارتباط التقشّف الشخصي بالمحبة الأخوية. وما يدل على أن المسيحية مركّزة ليس على التطهّر الذاتي فحسب ولكن على التعاضد والتمسك الجماعي. هو التنسك من أجل الإخوة.
من الواضح أن روحية الصوم الأربعيني هي التي أثّرت في نشوء الأصوام الأخرى. توزيع الإمساك على فصول من السنة مختلفة يجعل لممارسة الصوم إيقاعات خلال السنة فيتربى المؤمن على الاعتدال ويحفظ نفسه في ما قلّ ليذكّرها بأن اهتمامها آخر. واذا جمعت هذه المواسم الى الإمساك يومَي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع ترى أن معظم أيام السنة في الكنائس الشرقية صياميّ وما نتوخّاه من هذا أن نضبط النفس لئلا تستكبر.
"ادخُلوا من الباب الضيّق". تلك هي التوصية الضامنة للخلاص. المسيحية فعلية بحيث انها تسعى الى تطويع المؤمن لربه نفسا وجسدا وليست ضائعة بالتنظير والتخيّل. المسيح فيها حاكم للملكات البشرية كلها حتى تتناسق وتُنتج معا لتجعل الله سيدا عليها، واذا تواضعت أمامه يرفعها من الموت كما رفع حبيبه.
المطران جورج خضر