Friday, February 5, 2010

القديس مارون
يرد في تاريخ القدّيسين ذكر قدّيس ناسك اسمه مارون توفي في بدايات القرن الخامس الميلاديّ. و"مارون"، في السريانيّة، تصغير للفظ "مار" الذي يعني "السيّد". المرجع الوحيد لسيرة حياته هو ما رواه عنـه، باقتضاب، ثيوذوريطُس أسقف قـورش في كتابه "تاريخ أصفياء الله"، وهو كتاب يؤرّخ فيه مـؤلّفه سِيَر الرهبان من معاصريه. ومن المشهور أنّ القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+408)، رئيس اساقفـة القسطنطينيـة، قد وجّه إليه رسالة مـن منـفاه بكوكـوزا مـن بلاد أرمينية. تعـيّد الكنيسة الأرثوذكسيّـة ذكراه في الرابـع عشر من شهر شباط، بينما تعيّـدها الكنيسة المارونيّة في التاسع من شهر شباط.
لا يذكر ثيوذوريطس في أيّ بقعة جغرافيّة من سورية تنسّك مارون، فهو يقول إنّ القدّيس "الذي
كان زينةً في جوقة القدّيسين الإلهيّين، اتّخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين، حيث كان هيكلٌ للشياطين، فحوّل ما فيه إلى عبادة الله، ثمّ ابتنى لنفسه صومعة حقيرة يلجأ إليها". ويذكر كاتب سيرته أنّه كان يتمتّع بموهبة الأشفية حتّى ذاع صيته في كلّ مكان، فكان يستثمر هذه الموهبة لإرشاد الآتين إليه للشفاء إلى التعليم الحقّ. وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضًا يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافيًا "هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحًا هذا التعليم المؤدّي إلى الحكمة، وواضعًا لذاك الإرشادات إلى الفضيلة، مروّضًا ميوعة هذا، ومنعشًا ذاك من كسله". توفاه الله بعد أن انتابه مرضٌ بسيط أودى بحياته، ويقال إنّ نزاعًا شديدًا قام بين القرى المجاورة رغبة من كلّ منها بالاستئثار بجسده.

وصلتنا ضمن التراث الآبائيّ رسالةٌ بعثها القدّيس الأنطاكيّ العظيم يوحنّا الذهبيّ الفم إلى القدّيس البارّ مارون الناسك، يذكّره فيها بالصداقة القديمة ويوصيه بأن يصلّي لأجله. فيقول يوحنّا في هذه الرسالة التي دوِّنت على الأرجح بين عامي 404 و405: "إنّنا لمرتبطون معك برباط المحبّة. حتّى ولو كنّا بعيدين بالجسد نواصل التفكير بما يختصّ بنشاطك، فيزداد اطمئناننا ونحصل على الكثير من التعزية ونحن هنا في المنفى، لأنّه ليس بالقليل السرورُ الذي يحلّ بنا لدى سماعنا أخبار سلامتك. وقبل كلّ شيء نطلب إليك أن تصلّي لأجلنا". غير اننا لا نستطيع ان نجزم ان مَن أُرسلت اليه الرسالة هو ذاته مارون الناسك هذا.

إذا كان القدّيس مارون أرثوذكسيّ الهويّة والانتماء، وتوفي أرثوذكسيًّا، فمَن أنشأ الكنيسة المارونيّة؟ وكيف نشأت؟

الثابت الأكيد أنّ قدّيسنا مارون قد توفّي قبل نشوء الكنيسة المارونيّة. أمّا تسمية الكنيسة المارونيّة فتعود إلى دير القدّيس مارون الذي بناه أتباع القدّيس مارون وتلاميذه في منطقة أفامية (المعروفة اليوم باسم باسم قلعة المضيق) القريبة من حماه في سورية على ضفاف نهر العاصي. إنّ القليل الذي يمكن تأكيده عن تاريخ الموارنة في السنين الأولى لولادة كنيستهم هو أنّ يوحنّا مارون، بطريركهم الأوّل الذي توفّي عام 707، هو الذي أنشأ تنظيمًا كنسيًّا خاصًّا بهم منفصلاً عن الكنيسة الأرثوذكسيّة. وهذا يعني أنّ الكنيسة المارونية لم تعرف تنظيمًا مستقلاًّ إلاّ بعد وفاة القدّيس مارون بحوالى ثلاثمائة سنة. فيكون أنّ النسبة المارونيّة تعود إلى الدير لا إلى القدّيس.

وبما أنّ بعض الالتباسات تعترض الأصل التاريخيّ للكنيسة المارونيّة ومراحل انتشارها الأولى، فإنّ إيمانها العقائديّ كان أيضًا عرضة للجدل خلال فترة طويلة من حياتها. فقد نُسب إليها الإيمان ببدعة المشيئة الواحدة في السيّد المسيح، التي حاربتها الكنيسة في القرن السابع الميلاديّ، وأكدّت في المجمع المسكونيّ السادس المنعقد في القسطنطينيّة عام 681 أنّ للمسيح مشيئتين، إلهيّة وإنسانيّة. وممّا يعزّز هذه الفرضيّة أنّ الإمبراطور هرقل (610-641)، الذي دعم أصحاب المشيئة الواحدة، كان على علاقة طيّبة بدير مار مارون فـ"يقف له الأوقاف الكثيرة"، على ما أورد سعيد بن البطريق في تاريخه. ومع مجيء الصليبيّين إلى الشرق في حملاتهم الشهيرة عند نهاية القرن الحادي عشر، اتّصل الموارنة بكنيسة رومة التي قبلت عودتهم إلى الإيمان الكاثوليكيّ. وهكذا تكون الكنيسة المارونيّة أوّل كنيسة تتّحد برومه بعد الانشقاق الكبير بين الكنيستين الشرقيّة الأرثوذكسيّة والغربيّة الكاثوليكيّة.

لم يكتفِ قدّيسنا مارون البارّ بالأعمال الزهديّة والتقشّفيّة، كالأصوام والصلوات الدائمة والسهر في ذكر الله وإطالة السجود وتلاوة الكتاب المقدّس والتأمّل، بل انصرف أيضًا إلى العمل في الأرض ووعظ الزوّار وإرشادهم وتعزية الحزانى... فيقول ثيوذوريطس: "لم يكتفِ مارون بممارسة الأتعاب الشاقّة، بل كان يفطن أيضًا لجذب الكثيرين إلى المزيد من أعمال الفلسفة. وكان الذي يكافئ على الأتعاب (أي الله) يغمره بالنعمة".

القدّيس مارون قدّيس لا ينحصر في أمّة أو في كنيسة أو في بقعة محدّدة من بقاع الأرض، إنّه قدّيس الكنيسة الجامعة، قدّيس الكنيسة كلّها.

http://www.serafemsarof.com/mag/index.php?option=com_content&task=view&id=262&Itemid=102