نزل العشار إلى بيته مقبولاً عند الله . أما الفريسي فلا .
شكل الفريسيون في المجتمع اليهودي مجموعة متضامنة مهمتها تفسير الشريعة . و المثل هو وسيلة تعبر عن الانتقادات القاسية ضدهم ، لا في تأكيدات عامة ، بل في وضع ملموس جداً .و حدد لنا لوقا موضوعه بدقة : " بعض الناس اعتقدوا أنهم أبرار ، فاحتقروا الآخرين " .واذ أراد يسوع أن يفهمه الناس ، و ضع أمامنا مؤمنَين متعارضَين قد ذهبا إلى الهيكل للصلاة .
الأول فريسي ، وقف كما يقف كل يهودي في صلاته . و لكن صلاته ليست بصلاة ، فرغم بدايتها ( يا الله ) ، هي مونولوج ، حديث انسان مع نفسه حول شريعة .
نظرة إنسان إلى نفسه ( لا إلى ربه ) في المرآة . و ما يراه ليس الله ، بل ممارساته الخاصة التي تتجاوز ما تفرضه الشريعة . هو يصوم مرتين في الاسبوع . هذا الصوم كان عادة فريسية لم تفرضها الشريعة ( هناك صوم اجباري واحد لدى اليهود : عيد كيبور أو عيد التكفير ) .
يروى عن أحد المعلمين أنه قال : " إن لم يبقَ سوى بارين على الأرض ، فسيكونان أنا و ابني ".
حين خرج الفريسي من الهيكل لم تستجب صلاته . فهو في الواقع لم يتصل بالله . تحدث من علياء اكتفائه بنفسه ، و نسي أن الله هو ما وراء الشريعة ،لا في خدمة الشريعة . و مهما يكن من أمرٍ ، تصرف كرجل بار نال التبرير من الشريعة لا من الله .إذاً ، على الله أن يعطيه ما " سلفه " إياه من أعمال صالحة .
و الثاني عشار، أي جابي ضرائب ، جاء هو أيضاً إلى الهيكل و لكنه ظل بعيداً. عشار يرفع صلاته إلى الله !!! هو خاطئ من وجهتين : انه يتعامل مع الرومان فيقدم لهم حصيلة الضرائب . إنه يظلم الناس ليجمع ثروة و لا سيما من الفقراء و المستضعفين . على كل حال ، فهو نفسه يقر أنه خاطئ. لهذا أقام بعيداً عن المؤمنين لئلا ينجسهم . و هو واعٍ لنجاسته ، فتجنب أن ينظر إلى السماء حيث قدس الأقداس .صلاة العشار قصيرة . و لكنها صرخة تحرك أحشاء الله . " ارحمني يا الله ، أنا الخاطئ"! قرع صدره الذي هو موضع الضمير كما تقول الرموز فأقر بخطيئته و أكد ندامته . اعتبره الفريسيون قضية ميئوس منها . فعليه أن يرد كل ما سلبه ، و يزيد الخمس . و مع ذلك فهو الذي استجابه الله و قبل صلاته . أما الفريسي فلم يبرر.
قد يستنتج الناس بنظرتهم البشرية أن الفريسي قد تبرر و العشار قد رذل . و لكن يسوع يتصرف كنبي ، فيعلن باحتفال حكم الله الذي يحيرنا : يتبرر الانسان ، لا بأعماله ، بل بنظرة الله الرحومة إليه . لهذا ، يجب أن نقر أننا خطأة ( نحتاج إلى خلاص الله ) مهما كانت الأعمال التي قمنا بها .اكتفى هذا العشار بصرخة ( يا الله ، ارحمني ) لكي يعلنه يسوع باراً و مقبولاً لدى الله . هل هذا عدل ؟ ! و لكن نظر يسوع يذهب أبعد من نظرنا . يذهب إلى القلب . و قد يكون فكر في تلك الساعة بعشار آخر هو زكا الذي استقبله في بيته ثم وزع ثروته على الفقراء .
كانت صلاة العشار صلاة متواضعة ، صلاة واثقة. صلاة توبة داخلية وحقيقية. والبار الذي امتدحه يسوع هو من وعى أنه أمام الله فقير ومسكين, أنه طفل يحتاج إلى صلاح أبيه وحنانه. كان هذا العشار كالابن الضالّ العائد إلى البيت الأبوي. عاد في حالة وضيعة واستعدّ أن يكون أجيراً بين أجراء أبيه. ففي أبسط أعمال الحياة اليومية. يحاول البار أن يعبرّ عن حبّه "الصغير " لله. وهو لا يعبّر عن هذا الحب عندما يكثر من الممارسات والطقوس التي تقرّبنا من الوثنيين. الله لا يطلب منا ممارسة تامّة لكل الفضائل حتى نكون أبراراً من هذا النوع. إنه أبونا وهو ينتظر منا أن نتصرّف كما يتصرّف الأبناء مع آبائهم. بثقة تامة واتكال لاشكّ فيه . كل ما فينا هو عطية من الله, هو نعمة . بماذا نستطيع أن نتبجّح؟ وبرنّا, وقداستنا, أو قيمتنا في عين الله لا نستولي عليها بزنودنا. الله هو الذي يعطينا إياها , فيطلب منّا فقط أن، نتقبّلها بثقة واتكال, ببساطة الأطفال.
يجب أن نكون فقراء لكي نتقبّل عطايا الله. ظلّ قلب هذا العشّار فارغاً مع أنه طلب المال والقدرة. حينئذ التفت إلى الله بصدق قلب ينفتح على رحمة الله. وعرف يسوع أن هذا الرجل هو من أخصائه, من "حزبه". لا ننغلق على فقرنا, بل نبقى منفتحين رغم ضعفنا وخطايانا. ونظرتنا إلى فقرنا لا تدعونا إلى اليأس, بل تدفعنا إلى طلب المعونة, فنرتمي بثقة تامة في قلب الله.
وهذا اليقين الداخلي لا يبقينا منفعلين. بل فاعلين. إنه يحملنا في رجاء قوي. إنه يجتذبنا لكي نسير على خطى المسيح فنقول مع بولس الرسول: " أستطيع كل شيء في ذلك الذي يقويني ".
ساعدني, يا رب لكي أفهم الجوهر. لا أن أكون " فاضلاً". لا أن أكون في " وفاق" مع الشريعة. لا أن يكون ضميري "مرتاحاً". ليس الجوهر في أن أحس بنفسي خاطئاً وغير مستحق, بل أن أحدّد موقعي في الحق بالنسبة إليك.
أعطني يا رب أن أتقبّل ببساطة وإعجاب مجانية حبك. حبك هو شرفي العظيم, هو برارتي وقداستي. ولتكن" ممارساتي" الدينية منفتحة دوماً على نعمتك وحياتك وموهبتك.
أعرف أني خاطئ فلا تسمح بأن أيأس من خطيئتي. بل أمِل قلبي إلى رحمتك وحنانك.وعلّمني أن العلاقة الوحيدة الحقّة هي علاقة الحبّ. الحبّ يريني شقائي ولا يسجنني فيه. فأنا أعرف أنك أحببتني منذ البدء وأنك لاتزال تحبّني مع خطيئتي ورغم خطيئتي. محبتك أمينة ثابتة, ومحبتي عابرة, فأشعل محبتي بنار محبتك.